Section outline
-
المحور الأول: المسؤولية المدنية الكلاسيكية:
سنضبط في هذا المحور مدلول المسؤولية، وتمييز المسؤولية المدنية والجزائية، لنعرج إلى تحديد أساس المسؤولية في التقنين المدني الفرنسي، ثم الجزائري وذلك ما سيتم تفصيله من خلال أربعة نقاط وفقا لمايلي:
أولا: المقصود بالمسؤولية:
يراد عموما بالمسؤولية الجزاء الذي يترتب على الشخص عند إخلاله بقاعدة من قواعد السلوك، ويختلف هذا الجزاء باختلاف نوع القاعدة المخل بها، وقد يتعلق الأمر بقاعدة جزائية فتكون المسؤولية جزائية، ويتمثل هذا الجزاء في العقوبة (الحبس أو الغرامة مثلا)، وقد تكون القاعدة المخل بها مدنية فتكون المسؤولية مدنية، ويتمثل الجزاء حينئذ في الالتزام بالتعويض، والجدير بالذكر إلى أنه إضافة إلى الخلط الذي كان موجودا قديما بين المسؤولية المدنية والمسؤولية الجزائية، فقد تجتمع هاتان المسؤوليتان في فعل واحد مما يستوجب التمييز بينهما[1].
ثانيا: المسؤولية المدنية والمسؤولية الجزائية:
تنبني المسؤولية المدنية على حالة الشخص الذي يخل بالتزامات قانونية تؤدي إلى إلحاق ضرر بشخص آخر وافتقار في ذمته، وتعرف أيضا بأنها التزام بتعويض الضرر الذي يسببه إخلال المدين بالتزامه، فمضمونها إذن هو التزام المسؤول بتعويض الأضرار التي تلحق بالغير، فهي مسؤولية قانونية لأنها ترتب أثرا محددا هو الالتزام بالتعويض الذي يكفل تنفيذه بالجزاء القانوني، وهي مسؤولية مدنية لأنها تهدف إلى رفع الضرر الذي يلحق بالغير وذلك من خلال إزالته أو إصلاحه أو منح مبلغا من النقود تعويضا عنه[2].
وفي إطار المسؤولية المدنية نفرق بين المسؤولية المدنية العقدية ومضمونها أي إخلال بالتزام ناشئ عن عقد، والمسؤولية المدنية التقصيرية التي تنشأ عن إتيان عمل يضر بالغير خارج نطاق أي عقد بين المسؤول والمضرور، وقد تناول المشرع الجزائري أحكام المسؤولية التقصيرية في المواد من 124 إلى 140 من القانون المدني، وتقوم هذه الأخيرة على أركان ثلاثة هي: الخطأ والضرر والعلاقة السببية بينهما[3]، فالمسؤولية العقدية هي جزاء عدم الوفاء بالالتزامات العقدية، أما التقصيرية فهي جزاء الفعل غير المشروع[4].
أما المسؤولية الجزائية فهي تترتب عن حالة الشخص الذي يخل بقاعدة من قواعد القانون الجنائي، وتؤدي إلى عقاب مرتكب هاته الجريمة، وبالتالي فهي لا تترتب إلا على أفعال محددة هي الجرائم، والجرائم كما هو معروف ومقرر في القانون الجنائي محددة على سبيل الحصر وفقا لمبدأ «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص».
ثالثا: أساس المسؤولية المدنية في التقنين المدني الفرنسي:
حين وضع التقنين المدني الفرنسي في مطلع القرن التاسع عشر لم ينكر واضعوه في التجديد بل انساقوا وراء فقه دوما وبوتيه، وتبنوه في صياغتهم لأحكام المسؤولية المدنية وسعوا من وراء ذلك إلى جعل الخطأ أساسا للمسؤولية المدنية ،حتى لو كان يسيرا ولا تقوم المسؤولية بدونه (المادة 1382 ق م ف) وتقابلها المادة 124 من القانون المدني الجزائري، كما نصوا في المادة 1384 على مسؤولية المرء عن الأضرار التي يحدثها الأفراد الذين يسال عنهم أو عن فعل الأشياء التي يتولى حراستها، ثم تعرضوا في المادة 1385 لمسؤولية مالك الحيوان أو من يستخدمه عن الأضرار، التي تحدث بفعل هذا الحيوان، كما تعرضوا في المادة 1386 لمسؤولية مالك البناء عن الأضرار التي تلحق بالغير من جراء هدم البناء[5]، وكان الضابط في هذه الحالات هو قيام المسؤولية على أساس الخطأ الشخصي، فعل الغير، فعل الأشياء التي تحتاج للحراسة.
وكان الاعتقاد ساريا في ذلك الوقت، بأن المواد سالفة الذكر الخاصة بالمسؤولية التقصيرية ستكون كافية لمواجهة أية تطورات قد تطرأ على نظام المسؤولية، غير أنه وفي أواخر القرن التاسع عشر، بدأت معالم الثورة الصناعية تظهر وانتشر استعمال الآلات مما أدى إلى ظهور تطورات وجدالات فقهية وقانونية كبيرة بشأن نظام المسؤولية التقصيرية وفق ثلاثة نظريات نسردها تباعا كما يلي:
01- النظرية الشخصية:
وتعتمد على فكرة الخطأ كركن جوهري في المسؤولية التقصيرية، ويرتبط الخطأ بسلوك الشخص المسؤول ولا يفرق بشأنه بين العمد وغير العمد، وكان الفقيه الفرنسي دوما أول من وضع الخطأ كأساس للمسؤولية بصفة مطلقة وقسمه إلى ثلاث أقسام:
أ – الخطأ الذي يترتب عليه جناية أو جنحة، ويستتبع مساءلة جنائية من الدولة، إضافة لمطالبة المضرور له.
ب- الخطأ الناتج عن إخلال بالتزام متفق عليه (خطأ عقدي).
ج – الخطأ الناتج عن الإخلال الذي لا يتشكل به جناية أو جنحة ويعتبر خطأ أو إهمال أو عدم تبصر
إلا أن هذا الرأي قد هجر، ولم يعد هناك تدرج في الخطأ للتمييز بين المسؤولية العقدية والمسؤولية التقصيرية لازدياد عدد الحوادث الضارة، مما نتج عنه كثرة النزاعات المطروحة على المحاكم التي لها صلة بموضوعات المسؤولية المدنية، مما استدعى إيجاد حلول وضوابط فقهية لهذه المستجدات، إذ برز للوجود العجز التشريعي في إحلال الحق والعدالة في العديد من القضايا ،بسبب عجز المضرور عن إثبات الخطأ في جانب المسؤول مما دفع إلى تضافر الجهود الفقهية ،لإيجاد التوازن بين مصلحة المضرور في الحصول على التعويض وصعوبة إثبات الخطأ في جانب المسؤول، والمناداة بتطبيق الموضوعية في المسؤولية.
02 – النظرية الموضوعية
وضع الفقيه لا بيه لبنة أساس آخر للمسؤولية المدنية، لا تقوم على فكرة الخطأ وإنما على أساس الضرر، وأنكر كل وجود للخطأ كأساس تقليدي للمسؤولية مؤكدا على وجوب تحمل كل شخص مخاطر أفعاله سواء كانت خاطئة أو غير خاطئة [6]، حيث كان للتطور الاقتصادي الحاصل في القرن التاسع عشر، الدور الكبير في تطور أساس المسؤولية نحو الضرر، فكثرت المخترعات الميكانيكية وقامت الصناعات الضخمة وانتشرت وسائل النقل الآلية، فنجم عنه خطر كامن في استعمال هذه الآليات والتكنولوجيا بشكل أكثر احتمالا وتحققا مما كان عليه الوضع سلفا، وبرز ركن الضرر في المسؤولية التقصيرية حتى كاد يطغى على ركن الخطأ[7]، وقد دافع على هذا الأساس المبني على الضرر الفقيه سالي الذي ذهب إلى أبعد الحدود، حينما طالب بإعدام فكرة الخطأ والاكتفاء بالضرر كركن وحيد تقوم عليه المسؤولية، طالما أن هدف المسؤولية المدنية هو جبر الضرر، لذا فلا أهمية لما إذا كان الضرر قد نتج عن خطأ من عدمه، ضف إلى ذلك أن مقتضيات العدالة تستوجب أن يتحمل صاحب الفعل الضار نتيجة فعله[8]، وهذه هي نظرية تحمل التبعة والتي اتخذت عدة صور منها:
- نظرية الغرم بالغنم، ومفادها أن كل فرد يجب عليه، أن يتحمل تبعة النشاط الذي يجني من ورائه فائدة، ومن ثمة يلتزم بتعويض الضرر الناجم عنه.
- وكذا نظرية المخاطر المستحدثة، أي أن كل من استحدث خطرا يمكن أن يسبب ضررا للغير، سواء أكان ذلك نتيجة لنشاطه الشخصي، أو باستخدامه أشياء يلتزم بتعويض الضرر الذي يصيب الغير دون اشتراط وقوع خطأ من جانبه، فالمسؤولية طبقا لهذه النظرية موضوعية قوامها الضرر، وليست مسؤولية قائمة على أساس الخطأ، وهي تتحقق بتوافر الضرر وعلاقة السببية بينه وبين الفعل[9].
أما التشريع الفرنسي فقد حدد نطاقا ضيقا للنظرية الموضوعية، وبقي بعيدا عن أن يأخذ بها كقاعدة عامة، فقد اقتصر على الأخذ بها ،في بعض نواحي النشاط وما يتولد عنها من تبعات، فكان قانون حوادث العمل الصادر في 09 ديسمبر 1898 أول نص تشريعي يتضمن مسؤولية دون خطأ، ثم استمرت حركة التقنين الفرنسي في هذا الاتجاه بصدور قانون تبعات الحرفة ومخاطر العمل في 30 أكتوبر 1946، وقانون مخاطر الطيران في 31 ماي 1924.
أما القضاء الفرنسي فلم يسلم بالمسؤولية الموضوعية، بل هو يشترط دائما أن تقوم المسؤولية على الخطأ، واستعان القضاء الفرنسي، إلى جانب الخطأ المفروض في المسؤولية التقصيرية بالمسؤولية العقدية ،في بعض الحالات وذلك عن طريق استخلاص التزام بضمان السلامة في بعض العقود وخاصة في عقد النقل، وألزم الناقل بتحقيق غاية هي وصول المسافر سليما إلى المحطة، وفي الحالة العكسية يكون مسؤولا دون حاجة المضرور إلى إثبات خطأ الناقل، ومهما يكن من أمر فإن القضاء الفرنسي ثبت على فكرة الخطأ أساسا للمسؤولية التقصيرية، ولم يحد عن ذلك إلى نظرية تحمل التبعة[10]. وهكذا أخذت المسؤولية المدنية حيزا هاما، من بين مصادر الالتزام وكثرت بشأنها القضايا أمام الهيئات القضائية ،وجلبت اهتمام الكثير من فقهاء القانون، حيث قسمت إلى ثلاث أنواع: المسؤولية عن الأفعال الشخصية، والمسؤولية عن فعل الغير، والمسؤولية عن فعل الأشياء.
كما أحدثت سنة 2016 ثورة تشريعية في القانون الفرنسي، مست أهم معالم القانون ممثلة في أحكام نظرية الالتزام ،هذه الأخيرة التي عرفت بثباتها المرن وظلت دون تغييرات جذرية بقرنين من الزمن منذ صدور قانون نابليون إلى غاية مجيء الأمر 2016/131 والذي دخل حير التطبيق في 01 أكتوبر 2016[11]، وأحدث تعديلات جذرية، حيث أنه في ظل القانون المدني السابق، كانت حالة تداخل بين نظرية العقد ونظرية الالتزام لذا كثيرا ما كانت معالجة نظرية المسؤولية العقدية، تمتزج مع نظرية الالتزام لا العقد وكان هناك خلط مفاهيمي، لاسيما بين مفهومي الالتزام والعقد، وكان المشرع المدني السابق يسقط الآثار التي تترتب على الالتزام، بشكله العام على النظرية العامة للعقد بشكله الخاص ما أفقد فكرة المسؤولية التعاقدية المترتبة عن نظرية العقد أية خصوصية، مما ترتب عليه عدة نتائج أهمها: الغياب الواضح لنظرية المسؤولية التعاقدية، والذي تم تلافيه إلى حد كبير في القانون المدني المعدل لسنة 2016.
أما بشأن واقع المسؤولية التقصيرية، في ظل القانون المدني السابق والتي أصبح يصطلح عليها بالمسؤوليةغيرالتعاقدية، وهو ما شكل التحول الأبرز ضمن هذا القانون ليلغي التعريف المصطلحي ،لهذه المسؤولية القائم على التقصير إلى القائم على غير التعاقد وبالتالي إما أن يكون الشخص مسؤولا نتيجة عقد، وبالتالي نكون أمام مسؤولية عقدية وإما أن يكون مسؤولا دون عقد، وبالتالي نكون أمام مسؤولية غير عقدية[12]، وبقيت المعالجة القانونية لهذه المسؤولية، بين القاعدة العامة التي تقضي بأن كل فعل نجم عنه ضرر يلزم من ارتكبه بالتعويض، سواء كان الفعل ارتكب بشكل عمدي أو نتيجة إهمال أو عدم تبصر، وبالتالي فالتحول الحقيقي لموقف المشرع الفرنسي، من المسؤولية غير التعاقدية سيبرز بوضوح في مشروع القانون المعدل لأحكام هذه المسؤولية ،تحت عنوان واحد وهو «المسؤولية المدنية» الذي من المفترض، أن يوحد المعالجة القانونية لأحكام المسؤولية المدنية ببعديها التعاقدي وغير التعاقدي، في قسم واحد من القانون جاعلا المسؤولية غير التعاقدية بمثابة النظام العام للمسؤولية المدنية، مع إفراد بعض المواد القانونية الخاصة بالمسؤولية التعاقدية[13].
رابعا: أساس المسؤولية المدنية في التشريع الجزائري:
أقام المشرع الجزائري المسؤولية عن العمل الشخصي في القانون المدني لسنة 1975 على أساس الخطأ واجب الإثبات ،ويستوي في ذلك أن يكون ذلك الخطأ فعلا أو عملا إيجابيا أو مجرد امتناع، مادام قد ترتب عليه ضرر للغير، وهو ما أكده القضاء الجزائري في العديد من أحكامه، والذي أشار إلى الخطأ كأساس لا جدل فيه للمسؤولية عن الفعل الشخصي طبقا للمادة 124 ق م ج ، والخطأ الواجب الإثبات هو أيضا الأساس الذي اختاره المشرع الجزائري بالنسبة لمسؤولية الحائز عن الحريق، وهذا ما جاءت به المادة 140/01 بقولها: «من كان حائزا بأي وجه كان لعقار أو جزء منه أو منقولات حدث فيها حريق ،لا يكون مسؤولا نحو الغير عن الأضرار التي سببها هذا الحريق إلا إذا ثبت أن هذا الحريق ينسب إلى خطئه أو خطأ من هو مسؤول عنهم»، إلى جانب اعتماد الخطأ الواجب الإثبات من خلال المادة 124 و140 ،تناول المشرع بالتنظيم حالات أخرى للمسؤولية، تقوم بدورها على الخطأ لكنه لم يجعل الخطأ فيها واجب الإثبات وإنما مفترض، وهذا ما توحي بها المادة 134 التي تنص على مسؤولية متولي الرقابة على الأشخاص المكلف برقابتهم بقولها: «كل من يجب عليه قانونا أو اتفاقا رقابة شخص في حاجة إلى الرقابة بسبب قصر أو بسبب حالته العقلية أو الجسمية يكون ملزما بتعويض الضرر، الذي يحدثه ذلك الشخص بعمله الضار ويترتب هذا الالتزام ولو كان من وقع منه العمل الضار غير مميز»، كما نظم المشرع الجزائري من خلال المادة 135 (الملغاة بموجب تعديل 05/10) حالات خاصة من مسؤولية متولي الرقابة قائمة بدورها على فكرة الخطأ المفترض، وجاء فيها: «يكون الأب وبعد وفاته الأم مسؤولان عن الضرر الذي يسببه أولادهما القاصرون الساكنون معهما، كما أن المعلمين والمؤدبين وأرباب الحرف مسؤولون، عن الضرر الذي يسببه تلاميذهم والمتمرنون في الوقت الذي يكونون فيه تحت رقابتهم، غير أن مسؤولية الدولة تحل محل مسؤولية المعلمين والمربين ويستطيع المكلف بالرقابة أن يتخلص من المسؤولية إذا أثبت أنه قام بواجب الرقابة ،أو إذا اثبت أن الضرر كان لابد من حدوثه ولو قام بهذا الواجب بما ينبغي من العناية»، كما قرر أيضا مسؤولية المتبوع عن أفعال تابعه في المادة 136 والتي تقضي بأنه: «يكون المتبوع مسؤولا عن الضرر الذي يحدثه تابعه بعمله غير المشروع، متى كان واقعا منه في حالة تأدية وظيفته أو بسببها وتقوم رابطة التبعية ولو لم يكن المتبوع حرا في اختيار تابعه، متى كانت عليه سلطة فعلية في رقابته وتوجيهه»، وكانت نية المشرع هي إقامة مسؤولية المتبوع بدورها على فكرة الخطأ المفترض افتراضا غير قابل لإثبات العكس[14]
أما المسؤولية عن الأشياء فقد تناولها في المواد 138 إلى 140، وهي مسؤولية تشمل: المسؤولية عن الأشياء غير الحية، ومسؤولية حارس الحيوان، والمسؤولية عن تهدم البناء، وهي مسؤولية مبنية على فكرة الخطأ المفترض [15]، والخطأ المفترض في جانب حارس الشيء، هو خطأ في الحراسة كالخطأ المفترض في جانب حارس الحيوان، فإذا ألحق الشيء ضررا بالغير، كان من المفروض أن زمام هذا الشيء قد أفلت من يد حارسه، وبذلك يكون هذا الأخير قد أخطأ، وبافتراض الخطأ لا يجوز للحارس أن ينفي الخطأ عن نفسه، بأن يثبت بأنه لم يرتكب خطأ ،أو أنه قام بما ينبغي من العناية حيث لا يفلت زمام الشيء من يده لأن الحارس ملزم قانونا، بألا يترك زمام الشيء يفلت من يده كي لا يصاب أحد بضرر، وهذا التزام بتحقيق نتيجة وليس ببذل عناية، ولا يملك الحارس التخلص من هذه المسؤولية، إلا بإثبات أن الضرر قد وقع بسبب فعل المضرور أو بعمل الغير أو بسبب ظروف طارئة أو قوة قاهرة [16].
كما تناول المشرع حالة التعسف في استعمال الحق لأول مرة في المادة 41 التي تنص على أنه: «يعتبر استعمال الحق تعسفا في الحالات الآتية:
- إذا وقع بقصد الإضرار بالغير.
- إذا كان يرمي للحصول على فائدة قليلة بالنسبة للضرر الناشئ للغير.
- إذا كان الغرض منه الحصول على فائدة غير مشروعة».
وقد أثار هذا النص الذي ورد في الكتاب الأول من القانون المدني، المعنون بأحكام عامة بعض التساؤل حول علاقة التعسف في استعمال الحق ،بالمسؤولية المدنية ولاسيما عنصر الخطأ، حيث يرى بعض الفقه أنه لا توجد علاقة بين الأمرين في حين يرى البعض الآخر أن علاقة التعسف في استعمال الحق بالمسؤولية المدنية، هي علاقة طبيعية حيث يتمثل جزاء التعسف في استعمال الحق، في التعويض الذي يعتبر جوهر المسؤولية المدنية، كما أن حالات التعسف ما هي إلا صورة من صور الخطأ[17]، وهذا هو الحل الذي اهتدى إليه المشرع من خلال القانون 05/10 المعدل للقانون المدني، حيث ألغيت المادة 41 وتم تعويضها بنص المادة 124 مكرر[18]، وبالتالي لم يترك المشرع مجالا للشك في أن التعسف أصبح تطبيق من تطبيقات العمل غير المشروع، خاصة أن المشرع ذكر ذلك صراحة في نص المادة 124 مكرر، ورغم أن التعديل كان جوهريا إلا أنه بقي محافظا على المعايير نفسها، التي نصت عليها المادة 41، فالتعديل شمل مسألة التكييف القانوني للفعل التعسفي ولم يشمل معاييره، وقد نصت المادة 124 مكرر على أنه: «يشكل الاستعمال التعسفي للحق خطأ لاسيما في الحالات التالية:
- إذا وقع بقصد الإضرار بالغير.
- إذا كان يرمي للحصول على فائدة قليلة بالنسبة للضرر الناشئ للغير.
- إذا كان الغرض منه الحصول على فائدة غير مشروعة».
والحقيقة أن هذه الصور الثلاثة في استعمال الحق ،التي أشار إليها النص على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر، وذلك باستعمال المشرع عبارة تفيد هذا المعنى «أن الاستعمال التعسفي للحق يشكل خطأ لاسيما في الحالات التالية ...» مما يسمح للقاضي بممارسة رقابة واسعة على الاستعمال التعسفي[19]، وهو نفس الشأن في النص السابق أي المادة 41 التي تم إلغاؤها، التي تقوم فعلا على فكرة الخطأ باعتبار أن صاحب الحق قد أخل بالغاية، التي تقرر من أجلها هذا الحق عن عمد، أو بسبب إهمال أو تقصير منه[20].
وقد عرف القانون المدني طيلة عمره، الذي يتجاوز 35 سنة تعديلات، سعى من خلالها المشرع إلى استيعاب التطورات الحاصلة، في الدولة والمجتمع والاستجابة للدعوات الملحة إلى تعديل بعض أحكام هذا القانون، خصوصا في مجال المسؤولية التقصيرية[21].
ويمكن تقسيم التعديلات التي أدخلها المشرع الجزائري على القواعد الخاصة بالمسؤولية المدنية إلى قسمين أحدهما يتعلق بتعديلات شكلية، كان الهدف منها في الغالب توحيد المصطلحات المستعملة في النصوص القانونية الخاصة بالمسؤولية، والقسم الآخر يتعلق بتعديلات موضوعية، وجاءت هذه التعديلات الشكلية والموضوعية وفقا لما يلي:
- عدل المشرع عنوان الفصل الثالث من الباب الأول من الكتاب الثاني من القانون المدني تحت عنوان «العمل المستحق للتعويض» بالعنوان الجديد «الفعل المستحق للتعويض»، كما عدل عنوان القسم الأول من القسم الثالث، بحيث استبدل في العنوان القديم «المسؤولية عن الأعمال الشخصية» بالعنوان الجديد «المسؤولية عن الأفعال الشخصية».
- استبدل المشرع مصطلح «عمل» ومصطلح «بعمله» الوارد في المواد: 124- 125- 126- 129- 132- 133- 134- 136 بعبارة: «فعل» و«فعله»[22]، كما أن الصياغة الحالية للمادة 124 التي قضت بأنه: «كل فعل أيا كان يرتكبه الشخص بخطئه وبسبب ضررا للغير يلزم من كان سببا في حدوثه بالتعويض»، حيث وضعت هذه الصياغة الجديدة ،حدا للخلافات الفقهية التي أثرتها الصياغة الأصلية للنص ألا وهي: «كل عمل أيا كان يرتكبه المرء ويسبب ضررا للغير يلزم من كان سببا في حدوثه بالتعويض»، هذه الصياغة جعلت جانبا من الفقه ،يعتقد بأن المشرع الجزائري أخذ بالتصور الموضوعي للمسؤولية وقوامها الفعل الضار، في حين يرى جانب آخر أنه أخذ بالتصور الشخصي للمسؤولية وقوامها الخطأ، ويحتج الرأي الأول بأن ألفاظ نص المادة الذي لم يشترط الخطأ، بل لم يشر إليه إطلاقا ،وإنما اكتفى بأي عمل يترتب عنه ضرر بغض النظر عن السلوك الذي أتاه الفاعل، سواء كان سلوكا عاديا أو منحرفا عن السلوك العادي وسواء كان الفاعل مدركا ومميزا ،لما يقوم به من أفعال أو غير ذلك، ويدفع الرأي الثاني بعدة حجج منها صياغة النص باللغة الفرنسية، باعتباره النص الأصلي الذي يشترط صراحة الخطأ [23]، إن نص المادة 124 بالصياغة الحالية لم ترفع اللبس فقط بل تشترط صراحة خطأ الفاعل ،وأكدت أيضا تأثر المشرع العميق بالقانون المدني الفرنسي لاسيما المادة 1382 التي كرست التصور الشخصي للمسؤولية المدنية عن الفعل الشخصي وقوامها الخطأ الشخصي، وقد ذهب المشرع إلى أبعد من ذلك فبدل لفظ «المرء» استعمل عبارة «الشخص» لكون المسؤولية الشخصية، ليست قاصرة على الإنسان أي الشخص الطبيعي، فهي تعني كذلك الشخص الاعتباري[24].
- استحداث المادة 124 مكرر والتي أورد فيها مضمون نص المادة 41 مدني الملغاة والخاصة بالتعسف في استعمال الحق، ليجعل بذلك حالات التعسف في استعمال الحق صورة من صور الخطأ التقصيري، فالقانون لا يحمي الحق ومستعمله إلا إذا استعمل هذا الحق في الأطر الشرعية ،ولم يصل استعماله حدا الإضرار بالغير[25].
- تعديل نص الفقرة الأولى من المادة 125 كليا، حيث أصبح نصها بعد التعديل كالآتي: «لا يسأل المتسبب في الضرر، الذي يحدثه بفعله أو امتناعه أو بإهمال منه أو عدم حيطته إلا إذا كان مميزا» وقد كانت قبل التعديل تنص كما يلي: «يكون فاقد الأهلية مسؤولا عن أعماله الضارة متى صدرت منه وهو مميز»، حيث أصبحت بعد التعديل تشترط التمييز حتى يسأل الشخص.
- إلغاء الفقرة الثانية من المادة 125 التي كانت تنص على ما يلي: «غير أنه إذا وقع الضرر من شخص غير مميز، ولم يكن هناك من هو مسؤول عنه أو تعذر الحصول على تعويض من المسؤول، جاز للقاضي أن يحكم على من وقع منه الضرر بتعويض عادل مراعيا في ذلك مركز الخصوم».
- استبدال عبارة «العمال العامون» الواردة في المادة 129 بعبارة «الأعوان العموميون».
- إضافة عبارة «المادة 182 مكرر» والخاصة بالتعويض عن الضرر المعنوي إلى نص المادة 131 والخاصة بالتقدير القضائي للتعويض.
- تعديل نص المادة 134 الخاصة بمسؤولية متولي الرقابة، حيث تم الإبقاء على النص القديم على حاله، وتم إضافة فقرة ثانية له تتعلق بوسائل نفي هذه المسؤولية، والفقرة الجديدة المستحدثة في نص المادة 134 هي ذاتها الفقرة الثانية من المادة 135 التي تم إلغاؤها تماما في هذا التعديل، وقد أصبح نص المادة 134 المعدل كما يلي: «كل من يجب عليه قانونا أو اتفاقا رقابة شخص، في حاجة إلى الرقابة بسبب قصره أو بسبب حالته العقلية أو الجسمية يكون ملزم بتعويض الضرر، الذي يحدثه ذلك الشخص للغير بفعله الضار، ف02 ويستطيع المكلف بالرقابة أن يتخلص من المسؤولية إذا أثبت أنه قام بواجب الرقابة، أو أثبت أن الضرر كان لابد من حدوثه ولو قام بهذا الواجب بما ينبغي من العناية».
- إلغاء الفقرة الأولى من المادة 135 الخاصة بمسؤولية الآباء والأمهات والمعلمين والمؤدبين وأرباب الحرف[26].
- نقل الفقرة الثانية من المادة 135 الملغاة إلى المادة 134، بحيث أصبحت تشكل فقرة ثانية في هذا النص.
- استبدال عبارة «عمله غير المشروع» الواردة في المادة 136 والخاصة بمسؤولية المتبوع بعبارة «فعله الضار».
- إضافة عبارة «أو بمناسبتها» إلى نص المادة 136 بعد أن كان النص القديم يكتفي بمساءلة المتبوع عن أفعال تابعه حال تأديته وظيفته أو بسببها.
- استبدال عبارة «تقوم رابطة التبعية» الواردة في الفقرة الثانية من المادة 136 بعبارة «وتتحقق علاقة التبعية».
- تعديل الشطر الأخير من الفقرة الثانية من المادة 136 على النحو التالي: «متى كان هذا الأخير يعمل لحساب المتبوع» بدلا من العبارة القديمة «متى كانت له عليه سلطة فعلية في رقابته وفي توجيهه».
- إلغاء حق الرجوع لمتولي الرقابة، وحصر رجوع المتبوع على تابعه في حالة وحيدة هي حالة الخطأ الجسيم، بحيث أصبح نص المادة 137 بعد التعديل على النحو التالي: «للمتبوع حق الرجوع على تابعه في حالة ارتكابه خطأ جسيما» وقد كان النص القديم للمادة 137 ينص على ما يلي: «للمسؤول عن عمل الغير حق الرجوع عليه في الحدود التي يكون فيها هذا الغير مسؤولا عن تعويض الضرر».
- استحداث نصين جديدين هما نص المادة 140 مكرر والمادة 140 مكرر01، ليضيف بذلك تطبيقين جديدين من تطبيقات المسؤولية التقصيرية، فأما النص الأول خصصه لمسؤولية المنتج بقوله: «يكون المنتج مسؤولا عن الضرر الناتج ،عن عيب في منتجاته حتى ولو لم تربطه بالمتضرر علاقة تعاقدية» والنص الثاني خصصه لمسؤولية الدولة عن تعويض الضرر الجسدي في الحالات، التي يبقى فيها الفاعل مجهولا بقوله: «إذا انعدم المسؤول عن الضرر الجسماني ولم يكن للمتضرر يد فيه تتكفل الدولة بالتعويض عن هذا الضرر»[27].
-
المحور الثاني: مستقبل الخطأ في ضوء بروز أسس حديثة للمسؤولية المدنيةباعتبار أن المسؤولية المدنية هي علاقة دائنية بين دائن (المضرور) ومدين (المسؤول) تقتضي لقيامها أيا كان نوعها ثلاثة أركان وهي: الفعل المولد للضرر، الضرر، العلاقة السببية، وسنعالج شروط المسؤولية المدنية من خلال البحث في الفعل المولد أو المنشئ للضرر والذي يختلف باختلاف نوع المسؤولية، حيث تكون العبرة بالفعل الشخصي أو بالأحرى بالخطأ في المسؤولية عن الأعمال الشخصية، وبفعل الغير في المسؤولية عن عمل الغير، وبفعل الشيء في المسؤولية عن فعل الشيء. أولا: الفعل الشخصي: الخطأ تنص المادة 124 ق.م.ج على أنه: «كل فعل أيا كان يرتكبه الشخص بخطئه ويسبب ضررا للغير يلزم من كان سببا في حدوثه بالتعويض»، وتقابلها المادة 163 من ق.م.مصري، التي تنص على أنه: «كل خطأ سبب ضررا للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض»، والمادة 1883 من ق.م.فرنسي التي تنص على أن: «كل عمل يوقع ضررا للغير يلزم من وقع هذا الضرر بخطئه أن يقوم بتعويضه». أما المسؤولية المدنية في القانون الأردني تختلف قليلا في شروط قيامها، أو في مواجهة الأشخاص ذلك أن القانون المدني حدد ركن الضرر كأساس لقيامها، واكتفى بهذا الركن دون التصريح بوجود أركان أخرى كركن الخطأ وعلاقة السببية بين الخطأ والضرر، وتقوم هذه المسؤولية سواء كانوا مميزين أو غير مميزين، وفرق بين الضرر بالمباشرة والضرر بالتسبب[1] استنادا إلى هذه المواد التي حددت أركان المسؤولية عن الأفعال الشخصية المتمثلة في الخطأ، الضرر، العلاقة السببية، سنقوم بتحديد الركن الأول وهو الخطأ. 01 – تعريف ركن الخطأ: لم يحدد المشرع الجزائري تعريف الخطأ لما فيه من الدقة والصعوبة، ولكن الرأي الراجح فقها وقضاء أن الخطأ هو الانحراف عن سلوك الرجل المعتاد ، مع إدراك الشخص لذلك، وبعبارة أخرى هو الإخلال بالالتزام القانوني الذي يفرض على كل شخص عدم الإضرار بالغير، وأن يراعي في سلوكه الحيطة والتبصر حتى لا يضر بغيره، وهذا الالتزام هو التزام ببذل عناية وليس بتحقيق نتيجة، وبالتالي إذا انحرف عن هذا السلوك اعتبر مخطئا واستلزم ذلك قيام مسؤوليته [2]. 02 – عناصر الخطأ: للخطأ عنصرين؛ يتمثل الأول في الانحراف أو الإخلال بواجب ما، وهذا هو العنصر المادي، أما العنصر الثاني فهو انتساب هذا التعدي إلى المسؤول ،مما يستوجب التمييز والإدراك لديه وهذا هو العنصر المعنوي للخطأ. أ – العنصر المادي: التعدي عرف عبد الرزاق أحمد السنهوري التعدي بأنه: «مجاوزة المرء للحدود التي عليه التزامها في سلوكه»[3]، وباعتبار التعدي هو الركن المادي للخطأ والذي يتشكل عند تجاوز حدود اليقظة والتبصر المفترضين قانونا، فالمخطئ كي يعد مخطئا وتثار مسؤوليته يجب أن يكون متجاوزا (متعديا) لهذه الحدود من التبصر والعناية في سلوكه، لذا سنبحث في تحديد مجال التعدي ومعيار تقديره. • مجال التعدي: يتمثل التعدي باعتباره العنصر المادي للخطأ في الإخلال بواجب أو قاعدة قانونية من جهة، وفي التعسف في استعمال الحق من جهة أخرى. - الإخلال بواجب أو بقاعدة قانونية: يتحقق التعدي كلما كان الفعل، الذي يرتكبه الشخص مخالفا لقاعدة قانونية أو واجب قانوني كالإخلال بالنصوص القانونية الآمرة، كالواجبات التي يرتبها قانون المرور على السائق تجاه المارة، وواجبات المالك نحو جيرانه، وواجبات الطبيب نحو المريض، وواجبات المتدخل نحو المستهلك، وواجبات الموثق والمحضر القضائي. ويعد الإخلال بهذه الواجبات تعديا ،بغض النظر عن نوع الجزاء الذي يرتبه المشرع على مخالفة هذه الواجبات، فقد يكون عقوبة جزائية وقد يكون جزاءا مدنيا أو إداريا، وقد استخلص الاجتهاد القضائي الفرنسي، استنادا إلى المبادئ الأخلاقية منها الأمانة والنزاهة بعض الواجبات القانونية كحسن النية، الالتزام بالإعلام، إذ يعتبر الكذب أو الكتمان، أو التفريط في السلطة، أو الوعود الكاذبة بقصد تسهيل إبرام عقد، أو المساس بسمعة الفرد ومصداقيته عن طريق ترويج إشاعات كاذبة في بعض الحالات كخطأ مدني تترتب عليه مسؤولية مدنية[4]. - التعسف في استعمال الحق: إذا كان الفرد يهدف من وراء استعماله لحقه إلى تحقيق مصلحة خاصة به فإنه بالمقابل لا يجوز أن يتعارض هذا الاستعمال مع مصلحة الغير، وإذا كان القانون يحمي صاحب الحق في استعماله لحقه، فإنه يحميه طالما انه كان يسعى إلى تحقيق مصلحة مشروعة من وراء هذا الاستعمال، فإذا تجاوز هذا النطاق واستعمل حقه استعمالا غير مشروع تخلت عنه الحماية القانونية[5]، ومن ثمة يعتبر استعمال الحق بقصد غرض آخر تعسفا يرتب مسؤولية مدنية، وفي ظل هذه الاعتبارات الاجتماعية والقانونية الجديدة جعلت جل التشريعات الحديثة من التعسف في استعمال الحق أو إساءة استعمال الحق مصدرا مستقلا للمسؤولية المدنية، ومن ذلك نذكر المشرع اللبناني الذي عرفه ضمن المادة 124 من قانون الموجبات والعقود بأنه: «يلزم أيضا بالتعويض من يضر بالغير بتجاوزه في أثناء استعمال حقه حدود النية أو الغرض الذي منح من أجله هذا الغرض»[6]. فالمشرع اللبناني اعتبر التعسف في استعمال الحق، متحققا عند تجاوز صاحب الحق حدود حسن النية، أي عند قيام سوء النية لديه أثناء استعمال حقه، كما يتحقق التعسف في استعمال الحق أيضا عند تجاوز صاحب الغرض، الذي من أجله منح هذا الحق وينبغي طبعا أن تكون هذه المصلحة المراد تحقيقها أو حمايتها باستعمال الحق مصلحة مشروعة. كما تطرق المشرع الأردني للتعسف ضمن نص المادة 66 من القانون المدني الأردني تحت عنوان «إساءة استعمال الحق» بأنه: «يجب الضمان على من استعمل حقه استعمال غير مشروع»[7]، إن تعميم الحكم بالضمان في هذه المادة أمر غير سديد لان معظم حالات التعسف ،إنما يمنع فيها صاحب الحق من ممارسة حقه ولا يضمن تضمينا وفي بعضها يعوض عليه من حقه بتعويض عادل، من حساب المتضرر الذي كان المنع لمصلحته وبطلبه [8]. أما المشرع المصري فقد تطرق للتعسف في المادتين: 04 و05 من القانون المدني، حيث قضت المادة 04 بأنه: «من استعمل حقه استعمالا مشروعا لا يكون مسؤولا عما ينشأ عن ذلك من ضرر» وأوردت المادة 05 الحالات التي يعتبر فيها استعمال الحق غير مشروع وهي بمثابة ضوابط ومعايير للتعسف. أما بشان موقف المشرع الجزائري، من مسألة التعسف فلم يقف عند نية الإضرار بالغير ونص على ضوابط هذه النظرية ضمن المادة 124 مكرر التي قضت بأنه: «يشكل الاستعمال التعسفي للحق خطأ لاسيما في الحالات التالية: - إذا وقع بقصد الإضرار بالغير. - إذا كان يرمي للحصول على فائدة قليلة بالنسبة للضرر الناشئ للغير. - إذا كان الغرض منه الحصول على فائدة غير مشروعة». الملاحظ على نص هذه المادة أن المشرع الجزائري، خالف التشريعات السابقة إذ لم يتناول القاعدة العامة التي تقضي بأن : «من استعمال حقه استعمالا مشروعا لا يكون مسؤولا عما ينشأ عن ذلك من ضرر يصيب الغير»، كما أن المشرع الجزائري صاغ هذه النظرية صياغة أعطت لها مدلولا أوسع من المدلول، الذي أعطته لها باقي التشريعات، كما استعمال عبارة «التعسف» متفاديا بذلك عبارة «العمل غير المشروع» مثلما عبر عنه المشرع الأردني وعبارة «العمل غير الجائز» كما عبر عن ذلك المشرع اللبناني، كما انه أعاد صياغة هذه النظرية صياغة جديدة مقارنة بالنص القديم في المادة 41 الملغاة[9]. وبذلك فإن التعسف في استعمال الحق بقصد الإضرار بالغير يعتبر خطأ، بل هو خطأ عمدي باعتبار أن القصد الوحيد، الذي انصرفت إليه نية صاحب هذا الحق هو الإضرار بالغير، وبالتالي يمكن القول أن التعسف في استعمال الحق، يعد تطبيق من تطبيقات المسؤولية التقصيرية وخاضع لرقابة القانون، فإذا تعسف صاحب الحق في استعماله فإنه يلتزم بالضرورة بالتعويض على أساس مسؤوليته التقصيرية، وبالتالي إصلاح الضرر الناجم عن هذا الاستعمال التعسفي. وتجدر الإشارة إلى أنه هناك حالات، لا يعتبر فعل الشخص فيها خطأ بالرغم من أنه ترتب على فعله إلحاق أذى بالغير، ومن ثمة لا يتوجب فعله المسؤولية، وهذه الحالات هي: - حالة الدفاع الشرعي: المادة 182 ق.م.ج. - حالة تنفيذ أوامر الرئيس: المادة 129 ق.م.ج. - حالة الضرورة: المادة 130ق.م.ج. - حالة رضا المجني عليه[10]. • معيار تقدير التعدي: إن السؤال الذي يطرح نفسه هو متى يعتبر الخطأ موجبا للمسؤولية؟ أو بعبارة أخرى متى يعد الخطأ تعديا على التزام قانوني؟ أو ما هو المعيار الذي يقاس عليه فعل الشخص. يُرَدُّ هذا المعيار إلى إحدى الوجهتين: وجهة ذاتية أو وجهة موضوعية، فبالنسبة للمعيار الشخصي يتعين أن ننظر إلى الشخص المسؤول عن الضرر، لا إلى الضرر ذاته فنبحث هل من وقع منه يعتبر بالنسبة إليه ،انحرافا في السلوك أي سلوكه هو، فإذا كان سلوكه على درجة كبيرة من اليقظة وحسن التدبير، فإنه يسأل على أقل انحراف في سلوكه وإذا كان دون المستوى ، فإنه لا يسأل إلا إذا كان الانحراف في سلوكه انحراف كبيرا وبارزا، فإذا كان هذا المعيار عادلا بالنسبة لمن وقع منه الضرر، لكنه غير عادل بالنسبة للمضرور، وخاصة إذا كنا بصدد أضرار جسمانية[11]، يتضح فيها بجلاء ضعف مركز المضرور، وبالتالي يعد هذا المعيار مجحف في حقه، ويعتد هذا المعيار بظروف الشخص ذاته من حيث حالته النفسية والعقلية والبدنية ومدى ذكائه وثقافته، وهذا يعني أن أقل انحراف السلوك الشخصي اليقظ سيعد خطأ، أما انحراف الشخص العادي في السلوك فإنه كي يعد خطأ يجب أن يكون انحرافا واضحا، ويتميز هذا المعيار بأنه واقعي ويعامل كل شخص وفقا لظروفه، وهذا المعيار لا يتفق مع العدل والمساواة وهما أهم الأهداف التي يحرص القانون على تحقيقها[12]، لأن القاضي يتولى تقدير سلوك الفرد على ضوء العوامل السابقة من حالته الاجتماعية الثقافية الصحية، جنسه وسنه، فقد يعتبره انحرافا وقد يعتبره غير ذلك، والحقيقة أن هذا أمر صعب المنال، لذلك رجح المعيار الموضوعي المجرد أين يتولى القاضي تقدير سلوك الشخص، قياسا على سلوك الشخص العادي، أي السلوك المألوف لشخص يمثل أوسط الناس، فهو متوسط الذكاء والعناية والحذر وذو حيطة وضمير، فلا هو شديد اليقظة والحرص ولا هو مهمل كل الإهمال[13]، فإذا أردنا معرفة إذا كنا بسبب خطأ أم لا، فيجب قياس مسلك مرتكب الضرر بمسلك الشخص المعتاد فإذا وجدنا بأن المسلكين متفقين، بمعنى أن الشخص المعتاد لو وجد في نفس الظروف الخارجية لمرتكب الضرر، كان سيتخذ نفس المسلك الذي اتخذه مرتكب الضرر فلا نكون بصدد خطأ، أما إذا نتج من القياس أن الشخص المعتاد ما كان ليسلك نفس السلوك الذي سلكه مرتكب الفعل الضار، فمعنى ذلك أن مرتكب الضرر قد انحرف عن سلوك الشخص المعتاد بعبارة أخرى أنه قد أخطأ[14]، وسلوك الرجل المعتاد ليس نوعا واحد بالنسبة لكل الأشخاص بل هناك نموذج لكل فئة أو مجموعة من الأشخاص، فسلوك الفلاح مثلا يقاس على سلوك الفلاح العادي، وسلوك الطبيب يقارن بسلوك الطبيب العادي، ويظهر أن المشرع قد اعتمد بالنسبة للأخطاء العقدية المعيار المجرد، حيث أشار في العديد من أحكام القانون المدني، إلى عناية الشخص العادي، ولا شك أن الاجتهاد القضائي سيعتمد المعيار المجرد خاصة وأنه سهل التطبيق[15]. ب – العنصر المعنوي: الإدراك والتمييز إلى جانب الركن المادي للخطأ والذي هو الانحراف عن سلوك الرجل العادي –كما أشرنا سالفا- فالإدراك هو الركن المعنوي في الخطأ، وبذلك لا يكفي أن ينحرف الشخص عن سلوك الرجل العادي، وإنما يجب أن يكون من انحرف عن هذا السلوك مدركا لهذا الانحراف، فلا مسؤولية بدون تمييز، وتبعا لذلك فالصبي غير المميز والمجنون والمعتوه وفاقد الوعي لسبب عارض كالسكر والغيبوبة والمرض والمنوم تنويما مغناطيسيا إن لم يكونوا قد اختاروا ذلك بإرادتهم ، فإن المسؤولية هنا لا تقوم ، وبالتالي فلا مسؤولية على من كان فاقد التمييز، لأنه ينعدم الخطأ لانعدام التمييز لديهم، إذ ليس بإمكانهم التمييز بين الخطأ والصواب. ولكن منذ أواخر القرن التاسع عشر ظهرت النظريات الموضوعية، التي لا تعير للخطأ أي اهتمام وتقيم المسؤولية عن الضرر، بغض النظر إن كان محدثة مميزا أو غير مميز[16]. وبالنسبة لمسؤولية عديم التمييز عن فعله الشخصي، فإن المشرع الجزائري بعد إلغائه للفقرة 02 من المادة 125 ق.م.ج قد وضع حدا للتساؤلات والاختلافات الفقهية حول عديم التمييز والتي كانت تنص على أنه: «غير انه إذا وقع الضرر من شخص غير مميز ولم يكن هناك من هو مسؤول عنه أو تعذر الحصول على تعويض من المسؤول جاز للقاضي أن يحكم على من وقع منه الضرر بتعويض عادل مراعيا في ذلك مركز الخصوم»، فمن الفقهاء من قال بأن المشرع استمد هذا الحكم من الشريعة الإسلامية فأخذ بالمسؤولية الموضوعية لكون العبرة بالضرر، وعليه يكون عديم التمييز مسؤولا إذا تبين أن الفعل الضار ينسب إليه، وهناك من اعتقد أن مسؤولية عديم التمييز قوامها تحمل التبعة باعتبار أن هذه النظرية لا تقيم للتمييز وزنا، وهناك من يرى أنها مسؤولية استثنائية احتياطية جوازية ومخففة، ويرى رأي أخير أن هذا الالتزام بالتعويض يستند لفكرة العدالة وهي حالة مستقلة عن مفهوم المسؤولية[17]. إلا أن قيام المشرع الجزائري بالتعديل الأخير للقانون المدني، ألغى الفقرة 02 من المادة 125، وبالتالي يكون قد ألغى المسؤولية الشخصية لعديمي التمييز، وكل ما في الأمر أنه استحدث نظاما تعويضيا مستقلا يستند ،إلى العدالة تفاديا لنقائص الخطأ باعتباره أساس نظام المسؤولية، ويرى الدكتور فيلالي علي «أن المشرع الجزائري قد وفق عند إلغائه للفقرة 02 من المادة 125، حيث تجنب كل تحريف للمبادئ التي استقر عليها نظام المسؤولية المدنية ،والتحق بالنظم القانونية العربية، التي لا تقر مسؤولية عديم لتمييز كالمسطرة المغربية والمدونة التونسية، ويتبين أيضا من اعتماد هذا الحل أن المشرع الجزائري لم يتبع التشريعين الفرنسي والمصري[18] اللذان مازالا يحتفظان بهذه الرخصة للقاضي، حيث تقضي المادة 489 فقرة 02 من ق.م.ف بأنه: «كل من أحدث ضررا للغير وهو تحت اضطراب عقلي ملزم بتعويض الضرر الذي تسبب فيه»، والمادة 164 فقرة 01 من ق.م.م التي تنص على أنه: «... ومع ذلك إذا وقع الضرر من شخص غير مميز ولم يكن هناك من مسؤول عنه أو تعذر الحصول على تعويض المضرور جاز للقاضي أن يلزم من وقع منه الضرر بتعويض عادل مراعيا في ذلك مركز الخصوم»، وهنا يرى الباحثين على غرار الدكتور بن الزوبير الذي يقول: « .. أن المنحى الذي ذهب إليه كل من التشريعين الفرنسي والمصري، بشأن إقرار هذه المسؤولية الاستثنائية بأن الناحية الأخلاقية، تستوجب عدم التضحية بحق المضرور وتركه دون تعويض بحجة حماية عديم التمييز، ويبدو هذا الأمر أكثر صعوبة في الحالة التي يكون فيها عديم التمييز أيسر حالا ماديا من المضرور، ومن هنا يتضح بجلاء أن الحل الأخلاقي والعادل هو إقرار مسؤولية عديم التمييز عن أفعاله الضارة، وعليه نقترح إعادة إقرار المسؤولية الاستثنائية لعديم التمييز على النحو الذي كانت عليه في المادة 125 فقرة 02 قبل التعديل، وبالموازاة مع ذلك البحث عن كيفية التعويض، وهنا يتوجب إدراج ذمم أخرى إلى جانب ذمة عديم التمييز ،ومن يتولى رقابته في تحمل عبء التعويض، وقد وجهت مثل هذه الحالات بخصوص حوادث السيارات وإصابات العمل وتعويض ضحايا الإرهاب وغيرها من التطبيقات وبذلك تتحقق العدالة، ولا نكون قد ضحينا بمصلحة المضرور على حساب عديم التمييز أو العكس، فالأمر يتطلب أن يتم في نسق متوازن أي مراعاة مصلحة عديم التمييز والمضرور معا، وبذلك يكون أفضل ضمان أن يكون هناك نص خاص يلزم الدولة يتحمل عبء هذه التعويضات ،التي يسأل عنها عديم التمييز، وبالتالي يقترح تطبيق المادة 140 مكرر 01 ليشمل التعويض عن الأضرار التي تسبب فيها عديمي التمييز، والتي لا يفلح فيها المضرور في الحصول على تعويض من متولي الرقابة إما لانعدامه أو بسبب كونه معسرا ولا أمل في يسره»[19]. ومن الحلول العملية التي نادى بها ،أيضا جانب من الفقه الفرنسي والعربي في محاولة منه للتوفيق بين مصلحة كل من عديم التمييز والمضرور، في آن واحد إخضاع المسؤولية الخاصة بعديم التمييز لنظام التأمين الإجباري، على غرار التأمين الإجباري من حوادث المرور. ويقسم الخطأ التقصيري إلى نوعين: - خطأ تقصيري محدد، وهو يعبر عن نظم وضوابط خاصة واجبة الاتباع، إذ يكفي مخالفة ضابط ما في مجال طرق البناء أو الصحة أو المعمار أو البيئة لترتيب قرينة الخطأ وكأننا أمام مخالفات. - الخطأ غير المحدد، وفي هذه الحالة نكون أمام إخلال بواجب عام، ويعتبر عدم النزول عند مقتضيات هذا الواجب إخلالا به،و هنا دأبت القوانين اللاتينية وعلى رأسها القانون الفرنسي على طرح موجه عام، على هديه يمكن تسجيل الإخلال من عدمه يسميه بعض الفقهاء الفرنسيين: (NOURME DE CIVILITE) أو ضابط المدينة والتحضر[20]. ثانيا– قيام المسؤولية دون التحقق من الركن المادي للخطأ: قرر القضاء في بعض تطبيقات المسؤولية عن الفعل الشخصي قيام المسؤولية حتى دون التحقق من قيام الركن المادي للخطأ، ونستدل بذلك على مضار الجوار غير المألوفة، حيث تعتبر المسؤولية عن مضار الجوار غير المألوفة، تطبيقا ومظهرا آخر من تطبيقات ومظاهر المسؤولية الموضوعية، أين يفتقد أي دور للخطأ، وقد أصبح الجوار في ظل التطور السريع ضمن مجال التشييد والعمران ،يرتب جملة من مضار متكررة في الحياة اليومية بين الجيران، لتتشكل بذلك دائرة من المنازعات الجوارية أمام القضاء، وقبل البحث في الأساس القانوني الذي تقوم عليه مسؤولية مالك مضار الجوار غير المألوفة سنتولى تحديد المقصود بهذه المضار. 01 – تعريف مضار الجوار غير المألوفة: عرفها المشرع الجزائري من خلال المادة 691 ق.م.ج على أنها: «على المالك أن لا يغلو في استعمال حقه إلى حد يضر بملك الجار، وليس للجار أن يرجع على جاره في مضار الجوار المألوفة التي لا يمكن تجنبها، وإنما له أن يطلب إزالة هذه المضار إذا تجاوزت الحد المألوف، على أن يراعي في ذلك العرف وطبيعة العقارات وموقع كل منها بالنسبة للآخر والغرض الذي خصصت له، ولا يحول الترخيص الصادر من الجهات المختصة دون استعمال هذا الحق». وجاء منظور المشرع المصري لهذه المضار ضمن نص المادة 807 ق.م.م وقد أوجب المشرع على المالك ألا يغلو في استعمال حقه، إلى حد يضر بملك الجار لكن يجب ألا يفهم من ذلك أن مجرد الغلو أو التعسف في استعمال حق الملكية، إلى حد يضر بملك الجار يرتب مسؤولية المالك، وإنما يجب الوقوف على الأضرار التي يترتب عليها قيام مسؤولية المالك، لذلك تأتي الفقرة 02 من هذين النصين لتبين حدود هذا الالتزام فالمالك لا يسال أيا كان الضرر، بل يجب أن يتجاوز الضرر الحد المألوف، وهذا ما يستخلص من مضمون الفقرة بقولها: «ليس للجار أن يرجع على جاره في مضار الجوار المألوفة التي لا يمكن تجنبها، وإنما له أن يطلب إزالة هذه المضار إذا تجاوزت الحد المألوف»، وعلة ذلك واضحة حيث أن المالك، لم يرتكب تقصيرا كما انه لم يتعسف في استعمال حقه، فهو يبغي تحقيق مصالح جدية ومشروعة، كما أنه التزم في استعمال حقه مضمون وحدود هذا الحق، ولذلك لو سئل المالك عن أي ضرر يلحق بسبب استعماله لحقه لأصبح الملاك في حرج شديد ولغلت أيديهم عن استعمال حقوقهم[21]. إذ لا يأمن الملاك مهما بلغ حرص كل منهم، في استعماله لحقه من أن يترتب على هذا الاستعمال قدرا من الضرر للجيران، ولرفع هذا الحرج يجب أن يتحمل كل منهم قدرا معينا من الأضرار التي يفرضها الجوار ويمكن التسامح فيها، وهي الأضرار التي يصطلح عليها بمضار الجوار المألوف، أما بشأن بيان الظروف التي يعتد بها القاضي في تحديد الضرر غير المألوف، تم النص على أنه يراعى في ذلك العرف وطبيعة العقارات وموقع كل منها بالنسبة للآخر، والغرض الذي خصصت له، لذلك يمكن القول أن الحياة في المجتمع تستلزم أن يتحمل الفرد بعض المضايقات المألوفة للجوار أي تلك المضايقات أو المضار الخفيفة ،دون أن يكون له الحق في المطالبة بالتعويض عنها، بيد أنه إذا كانت تلك المضار قد بلغت حدا من الخطورة أي غير مألوفة، فإن الجار لا يكون ملزما بتحملها، وإنما يكون له الحق في تقرير مسؤولية محدثها، ومطالبته بتعويض الأضرار ذلك أن عدم مألوفية الضرر، هو الشرط الأساس لترتيب المسؤولية في بيئة الجوار[22]، لذا نتساءل حول الأساس القانوني لهذه المسؤولية، وهو ما سنحاول توضيحه في النقطة الموالية. 02 – الأساس القانوني لمسؤولية المالك عن مضار الجوار غير المألوفة: يرتب القضاء المسؤولية عن الغلو في استعمال الملكية، إذا ترتب عن ذلك مضار غير مألوفة وهذا ما دعى إليه الفقه العربي والفرنسي، إلى البحث عن تكييف قانوني لالتزام عدم الغلو في استعمال الملكية، وبالتالي البحث في أساس مسؤولية المالك عن مضار الجوار غير المألوفة، غير أن الجدل الفقهي الذي ثار في الفقه الفرنسي يختلف عن نظيره في الفقه العربي، وذلك لأن الفقه الفرنسي لم يستند صراحة إلى نص قانوني في ذلك فأراد تبرير أحكام القضاء وردها إلى أساس معين[23]، بينما على العكس من ذلك كان بين يدي الفقه العربي نصوص قانونية كالمادة 807 ق.م.م والمادة 691 ق.م.ج، والمادة 1021 من ق.م.أردني، وكل ما دار عليه النقاش هو تأصيل النصوص القانونية وردها إلى وجه معين من وجوه المسؤولية، فقد أقام عدد من الفقهاء وشراح القانون هذه المسؤولية على أساس الخطأ، ولكنهم اختلفوا في الوقت نفسه، فيما يتعلق بتحديد مفهوم هذا الخطأ في حين يرى فريق منهم أنه يتمثل في الخطأ الشخصي، وفريق ثاني بالإخلال بالتزامات الجوار، وفريق ثالث بتجاوز حالة الضرورة، وفريق رابع بالخطأ في حراسة الأشياء، وسنعالج هذه الأسس على نحو مختصر وفقا لما يلي: أ – أساس عدم الغلو هو الخطأ الشخصي: مضمون هذا الأساس أن الخطأ الشخصي، الذي يصدر من المالك هو أساس المسؤولية عن مضار الجوار غير المألوفة، فالمالك الذي يلحق مضارا غير مألوفة بجاره وفق منطق هذه النظرية يكون قد صدر منه خطأ شخصي، يقيم مسؤوليته وفقا للقواعد العامة في المسؤولية التقصيرية، ولكن أنصار هذا الاتجاه اختلفوا في تحديد مفهوم هذا الخطأ فذهب فريق إلى أن المسؤولية عن مضار الجوار غير المألوفة، تقوم على أساس الخطأ بمفهومه التقليدي، والذي يتمثل في الخروج عن الحدود الموضوعية للحق، وذلك إما بالانحراف عن السلوك المعتاد للشخص ،أو في الإخلال بالتزام تفرضه القوانين واللوائح، ومن ذلك ما قضت به المادة 27 من القانون رقم: 04/08 والتي تنص على أنه: «دون الإخلال بأحكام القانون رقم: 90/29 والمتعلق بالتهيئة والتعمير لا يمكن السماح بتواجد نشاط تجاري لإنتاج السلع والخدمات ،من شأنها أن تحدث أضرارا أو مخاطر بالنسبة لصحة وراحة السكان و/أو المحيط إلا في المناطق الصناعية أو مناطق الأنشطة المعدة لهذا الغرض، والواقعة في المناطق الحضرية أو شبه الحضرية السكنية دون سواها، غير انه يمكن أن تنشأ هذه الأنشطة في مواقع محددة ضمن نواحي المناطق الحضرية أو شبه الحضرية، وخارج مناطق النشاطات أو المناطق الصناعية بناء على رخصة صريحة تسلمها المصالح المؤهلة»[24]. وعليه فمخالفة نص هذه المادة، وذلك بعدم احترام ومراعاة شروطها يؤدي إلى مساءلة الشخص لأنه يكون قد ارتكب خطأ تقصيري، وذلك بمخالفته لالتزام قانوني، وكذلك الأمر إذا انحرف الشخص في استعمال حقه، عن سلوك الشخص المعتاد كعدم اتخاذه الاحتياطات والتدابير اللازمة أو إهماله وتقصيره في ذلك، كأن يتسبب في هدم مباني الجار بسبب حفره لأساسات المنزل، أو يتلف ممتلكات ومزروعات الجار بفعل تخزين مواد بنائه[25]، وطبقا لذلك يجب على الشخص الجار أن يراعي الحدود الموضوعية لحقه والتي لا تؤدي إلى إلحاق أضرار غير مألوفة بجيرانه، لأن القانون رسم حدودا موضوعية لحق الملكية لا يمكن تجاوزها، متمثلة في المضار المألوفة التي يتسامح فيها الناس عادة، ولكن إذا غلا المالك في استعماله لملكه، بحيث ألحق مضار غير مألوفة بجاره فإنه يكون قد خرج عن هذه الحدود، فيكون فعله بذلك خطأ يخضع في مسؤوليته عنه للقواعد العامة في المسؤولية التقصيرية[26]. أما الاتجاه الثاني فذهب إلى أن الأساس القانوني للمسؤولية عن مضار الجوار غير المألوفة يكمن في الخطأ بمفهوم الاعتداء المادي على ملك الجار، حيث يرى هذا الفريق أن المالك إذا أتى فعلا في حدود حقه، وضمن نطاق ملكه وترتب عليه مضار غير مألوفة تعدت ماديا ملكه إلى ملك جاره، بحيث انتقلت من الحيز المادي لملكه واخترقت الحيز المادي لملك ذلك الجار[27]، كأن تنبعث ضوضاء أو أدخنة أو روائح كريهة أو أصوات مزعجة، فإن هذا التعدي من قبل المالك، يعد خطأ تبنى عليه المسؤولية، وذلك لأنه يتوجب على المالك، وهو يستعمل حق ملكيته مراعاة ألا يترتب على ذلك تعدي مادي أو مساس مباشر بملك الجار[28]. بينما ذهب فريق ثالث إلى أن أساس المسؤولية عن المضار غير المألوفة هو خطأ يتمثل في رفض المالك، تعويض الجار المضرور عن الضرر الذي ألحق به، حيث يرى هذا الفريق أن المالك إذا استعمل ملكه استعمالا عاديا، وترتب على ذلك مضار مألوفة لحقت جاره، فإنه يتوجب على الأخير تحمل هذه المضار، التي يتسامح الناس فيها عادة ولكن إذا غلا المالك في استعمال ملكه، واستعمله استعمالا استثنائيا ليحصل منه على فائدة أكبر مما ترتب عن ذلك مضار غير مألوفة، لحقت جاره فإنه يقع على عاتقه تعويض هذا الأخير عن هذه المضار[29]، فإذا رفض تعويضه عن ذلك فإن رفضه يعد بحد ذاته خطأ تبنى عليه المسؤولية، وذلك لأن استعمال المالك لملكه استعمالا استثنائيا ليس خطأ، حيث تعد ممارسته لحقه في هذا المقام مشروعة ومفيدة للمجتمع، ويتمثل الخطأ في رفضه التعويض عن هذه المضار غير المألوفة، فتقوم مسؤوليته عنها وفقا للقواعد العامة في المسؤولية التقصيرية، على أساس الخطأ متمثلا في رفض التعويض[30]. ب – أساس عدم الغلو هو الالتزام القانوني للجوار: اتفق جانب من الفقه على أن هناك التزامات جوارية معينة، بين الملاك المتجاورين يلتزم بمقتضاها كل مالك بأن يستعمل ملكه وينتفع به كيفما شاء، وبالطريقة التي تروق له دون أن يلحق مضارا غير مألوفة بغيره من الجيران، ولكن إذا ألحق المالك هذه المضار يجيرانه ،فإنه يكون بعد ذلك قد أخل بالتزام مفروض عليه بعدم إلحاق مثل هذه المضار بهم، مما يتوجب قيام مسؤوليته عنها، على أساس الإخلال بهذا الالتزام[31]، ولكنهم اختلفوا في الوقت نفسه في تحديد طبيعة هذا الالتزام فيما بينهم. فذهب فريق إلى أن مضار الجوار غير المألوفة، تقوم على أساس الالتزام شبه العقدي حيث يعد الجوار وفق منطق هذا الفريق شبه عقد، ينشئ التزامات متبادلة بين الملاك المتجاورين من شانها أن تجعل كل منهم يتصرف بملكه كيفما شاء، دون أن يضر بالجيران الآخرين[32] ،وإذا خالف المالك هذا الالتزام وقام باستعمال ملكه، بطريقة تضر جاره فإنه يكون حينئذ قد خرق التزامه شبه التعاقدي، مما يستوجب قيام مسؤوليته عن ذلك على أساس الإخلال بهذا الالتزام[33]. أما فريق ثاني فذهب إلى أن التزام المالك ،بعدم إلحاق مضار غير مألوفة بجاره ليس مصدره شبه العقد وإنما مصدره القانون[34]، فإذ أخل المالك بالتزام فإنه يكون قد أخل بالتزام قانوني مفروض عليه، مما يستوجب قيام مسؤوليته على أساس الإخلال بهذا الالتزام. بينما فريق ثالث ذهب إلى أن المسؤولية عن مضار الجوار غير المألوفة تقوم على أساس عرفي، حيث يفرض العرف وفق منطق هذا الفريق ،على المالك التزاما بألا يحدث مضارا غير مألوفة بجاره، فإذا أخل المالك بالتزامه يكون قد ـأخل بالتزام عرفي مفروض عليه، ويستند في ذلك إلى ما نقل عن الفقيه الفرنسي بوتيه، من أن عدم الإضرار بالجار يعتبر مبدأ عاما يرجع إلى الأعراف القديمة[35]. ج – أساس عدم الغلو تجاوز حالة الضرورة: يؤسس أنصار هذه النظرية المسؤولية ،عن مضار الجوار غير المألوفة على أساس خطأ يتمثل في تجاوز حالة الضرورة، ومقتضى هذه النظرية أن العلاقة الجوارية تقتضي تحمل كل من الجارين المضايقات العادية ، التي تصدر من الآخر والتي تعد ضرورية لممارسة حق ملكيته، لكن يجب أن تقف هذه المضايقات عند الحد الذي تكون فيه مألوفة أي ضرورية لممارسة المالك لحق ملكيته، أما إذا تجاوزت هذا الحد بأن كانت غير مألوفة أي غير ضرورية ،لهذه الممارسة فإنه يتحقق الخطأ ولكنه ليس خطأ في جانب محدث الضرر، وإنما بتجاوز حالة الضرورة، إذ تعتبر هذه الأخيرة خطأ بحد ذاته، لذا يحكم بالتعويض للجار المضرور رغم انتفاء الخطأ، في جانبه استنادا لتجاوز حالة الضرورة لذلك شبه البعض استعمال المالك لحق ملكيته، وصدور أضرار لحقت جاره بنزع ملكية هذا الأخير للضرورة الخاصة[36]. د – أساس عدم الغلو هو المسؤولية عن الأشياء: ترتب على التطور العلمي والتكنولوجي والصناعي، وشيوع استخدام الآلية في العصر الحديث زيادة أسباب وقوع الضرر وتنوعه، بحيث أصبحت هذه المسؤولية عاجزة عن حماية المضرورين، ذلك لعجز المضرور عن إثبات خطأ المسؤول، عن الضرر في الكثير من الأحيان[37]، مما أدى ذلك إلى فقدان حقه في التعويض، لزيادة الحوادث وغموض سببها وعدم إمكانية نسبتها إلى شخص معين، من هنا نشأت فكرة المسؤولية عن الأشياء والتي تستند إلى فكرة الخطأ المفترض في جانب الشخص بحيث تقوم مسؤوليته عن الضرر الذي ينشأ عن الأشياء والآلات، التي يملكها بمجرد الملكية وإثبات علاقة السببية بين الشيء والضرر، سواء ثبت التقصير في جانبه أم لم يثبت، فحراسة الشيء تفيد بوجود قرينة قانونية على حصول الخطأ منه لا تقبل إثبات العكس، وبذلك استقر الفقه على أن كل من لديه أشياء أو آلات ميكانيكية، ألحقت مضارا بالغير فإنه تقوم مسؤوليته عن هذه المضار على أساس نظرية حراسة الأشياء، أو ما يمكن أن يطلق عليه الخطأ المفترض[38]، ووجدوا تفسيرا لنظريتهم في القانون الفرنسي، ضمن نص المادة 1384 والتي تنص على انه: «لا يكون الإنسان مسؤولا فقط عن الضرر الذي تسبب فيه بعمله بل أيضا عن الضرر، الذي تسبب عن الأشياء التي في حراسته»، وفي البداية طبقوا هذا النص على المؤسسات الصناعية، والتي تعتبر المصدر الأول والمستمر في إحداث الأضرار، حيث رأوا بأنه يجب على مستغل أو مستثمر المنشأة الصناعية لتفادي الإضرار بجيرانه أن يتخذ كافة الاحتياطات والتدابير، اللازمة والضرورية والأكثر حداثة وأن حصوله على الترخيص الإداري المسبق، بممارسة النشاط لا يعفيه من مسؤوليته عن تلك الأضرار غير المألوفة، وعليه إذا كانت هذه المنشآت الصناعية تنتج عنها الغازات السامة والأدخنة السوداء الخانقة، أو الضجة المزعجة والمستمرة ليلا ونهارا فإن صاحب هذه المنشآت تقوم مسؤوليته، عن هذه الأضرار وذلك لكونه قد أخل بالتزامه بالحراسة فكون الجيران قد أصابتهم مضايقات تجاوزت الحد المسموح به ،فإن ذلك يفترض إخلال صاحب المنشأة الصناعية ،مصدر الضرر بالتزام الحراسة المفروض عليه إذ أنه يعد حارسا للآلات والمعدات المستخدمة، في العمل مما يستوجب مساءلته عن ذلك كما لا يمكن نفي مسؤوليته بإثبات أنه لم يقترف أي خطأ، إذ أنه بذل العناية الواجبة بما يتفق والسلوك المألوف للرجل المعتاد، وإنما عليه إثبات السبب الأجنبي الذي أدى إلى حدوث الضرر، ولا يمكنه بأي حال استئناف ممارسة العمل، في المنشأة الصناعية مصدر الضرر إلا بعد إصلاح الأضرار التي سببها لجيرانه، مما يؤكد افتراض التزام الحراسة التي تقع على عاتقه ،كما ذهب أنصار هذا الاتجاه في تعميم قولهم على منازعات الجوار، إلى القول بأن نص المادة 1384 ق.م.ف لا يقتصر تطبيقه على الأضرار الناتجة عن المنشآت الصناعية وفقط ،وإنما يطبق أيضا على المضايقات غير العادية التي يتعرض لها الجيران، والتي تكون ناتجة عن الاستعمال العادي والمشروع لحق الملكية[39]. • أما بالنسبة لموقف المشرع الجزائري فقد اعتمد على فكرة التعسف في استعمال الحق كأساس للمسؤولية عن مضار الجوار غير المألوفة، وهذا ما يستدل من نص المادة 691 فقرة 01 التي ربطت بين درجة التعسف في استعمال الملكية ،وحدوث الضرر بما ينشئ المسؤولية عن مضار الجوار غير المألوفة، مما يفهم منه أنه يمنع التعسف في استعمال حق الملكية فقط في حال ترتب مضار جوار غير مألوفة عن ذلك، وفي المقابل يظهر وكأن المشرع يرخص التعسف في استعمال هذا الحق، في حال ترتب مضار مألوفة[40].
-
المحور الثالث: مستقبل الضرر في مجال المسؤولية المدنية في ظل توسع الأضرار
نجد دائما DOMAGE ونجد بالمقابل PREJUDICE وهنا نتساءل هل DOMMAGE هو نفسه PREJUDICE، وهل لهذا الاختلاف بين المصطلحين أثر من الناحية القانونية وما هو الفرق بينهما؟
يفرق الأستاذ شارتي بينهما فيقول أن DOMMAGE، هو الحادث المولد للضرر أكثر منه الضرر كحريق منزل أو سقوط طائرة، أما PREJUDICE فهو الأذى، الخسارة المادية والاقتصادية، أو الضرر المعنوي الذي ينتج عنه الحادث، ورغم هذا الاختلاف المثار إلا إن التفرقة ليس لها أي أهمية من الناحية القانونية، وأغلبية الفقه يعتبرهما مرادفين[1].
أولا: المقصود بالضرر:
هو ركن أساسي في إثارة المسؤولية المدنية سواء أكانت عقدية أو تقصيرية، وسواء أكانت مسؤولية عن الفعل الشخصيk أو عن عمل الغير أو عن فعل الأشياء وغيرها[2].
فالمسؤولية المدنية وجدت من أجل إصلاح وجبر الأضرار التي تتسبب للغير، مما يتبين أهمية هذا الركن، إذ لا مسؤولية مدنية ما لم يوجد ضرر، والحقيقة أن الضرر ليس بركن فقط في المسؤولية المدنية ،بل هو أيضا مقياس مقدار التعويض المستحق من قبل الضحية، وقد زادت التطورات التي طرأت على المسؤولية المدنية ،من أهمية الضرر حيث أصبحت هذه المسؤولية تقوم على الضرر والضرر فقط[3].
وتجدر الإشارة إلى أن المسؤولية المدنية بنوعيها العقدية والتقصيرية بل وحتى المسؤولية الموحدة في القانون المدني الفرنسي، لها وظيفة أساسية ووحيدة هي تعويض المضرور بقدر ما أصابه من ضرر من جراء فعل المسؤول، أما عن عقاب المسؤول وردعه عن العودة إلى مثل هذا السلوك ،الذي اقترفه مسببا به ضررا للغير فهو أمر أو وظيفة متروكة للمسؤولية الجنائية، أما في الدول الخاضعة للقانون العام كإنجلترا والو.م.أ نجد أن المسؤولية المدنية فيها غير مهيمنة على وظيفة واحدة، وهي تعويض المضرور عما أصابه من ضرر، بل إضافة إلى هذه الوظيفة تضطلع بدور آخر رادع لسلوك المسؤول بمعنى أن المسؤولية المدنية، إلى جانب احتفاظها بالوظيفة التعويضية أضيفت لها وظيفة عقابية رادعة لسلوك المسؤول[4].
وتتزايد أهمية الضرر كأساس للتعويض في القانون المعاصر، والتقليل من دور الخطأ كأساس له، ومن أهم الأسباب التي أدت إلى ذلك انتشار الآلة، والتطور الذي شهدته البشرية في المجال الصناعي والاقتصادي، وهذا ما أدى إلى انقلاب على المسؤولية في صورتها التقليدية واتسعت دائرة المسؤولية غير الخطئية، مما أدى إلى انتشار الأضرار ولاسيما الأضرار الجسمانية، حيث يلتزم المسؤول بالتعويض دون حاجة إلى إثبات الخطأ، ولا شك أن معظم الأضرار هي أضرار جسمانية، وكانت هي نقطة بداية التغيير في المسؤولية المدنية بحسب الحاجة الملحة لجبر هذه الأضرار، والتي عادة ما تلحق الطرف الضعيف في العلاقة[5] كما هو الحال بالنسبة لحوادث العمل والأمراض المهنية وحوادث المرور وأعمال العنف والأعمال الإرهابية، التي تعجز الذمة الفردية للمسؤول عن مواجهتها، الأمر الذي أثبت عجز نظام المسؤولية المدنية عن توفير التعويض الملائم عن مختلف الأضرار، واستوجب إعادة النظر في الأساس القانوني الذي يستند إليه الحق في التعويض عن مختلف الأضرار الناتجة عن الإصابات الجسدية يكون أكثر فعالية من نظام المسؤولية المدنية، وأصبح التوجه الجديد للمسؤولية المدنية يرجح حماية الضحية على مصلحة المسؤول.
01 – تعريف الضرر:
لا يعثر على تعريف جامع مانع للضرر في نصوص القانون المدني، رغم أن فكرة الضرر وردت في كل النصوص سالفة الذكر، وإنما يستنتج من فحواها ضرورة وجود ضرر ولا مسؤولية بدونه، ومجاراة للفقه يعرف الضرر بأنه: «الأذى الذي يصيب الشخص من جراء المساس بحق من حقوقه، أو بمصلحة مشروعة له سواء تعلق ذلك الحق أو تلك المصلحة بسلامة جسمه أو بماله أو حريته أو شرفه»[6].
02 – أنواع الضرر:
سنسلط الضوء على الضرر المادي والمعنوي، والضرر الجسماني والبيئي على النحو التالي:
أ – الضرر المادي والمعنوي:
هناك فارق يقوم بين الضرر المادي والضرر المعنوي.
- فالضرر المادي هو الذي يصيب الشخص في جسمه أو ماله، أو يترتب عليه انتقاص حقوقه المالية أو تفويت مصلحة مشروعة له ذات قيمة مالية، ونكون أمام ضرر مادي كلما كان الضرر قابلا للتقدير النقدي.
- أما الضرر المعنوي فهو الذي يصيب الإنسان في سمعته أو شرفه أو عاطفته، فهو لا يمس مصلحة مالية وإنما معنوية، وعلى خلاف الضرر المادي لا يترتب على الضرر المعنوي خسارة مالية أي انتقاص من الذمة المالية، وهذا هو السبب الذي أثار مشكلة تعويض الضرر المعنوي، ولم يتطرق المشرع الجزائري إلى مبدأ تعويض الضرر المعنوي في القانون المدني قبل تعديل 2005، غير أن هذا لم يمنع الاجتهاد القضائي من تعويضه، لكن بعد التعديل أصبح لا ينازع في مبدأ تعويض الضرر المعنوي مثله مثل الضرر المادي[7]، ولاسيما بعد إضافة المادة 182 مكرر التي تنص على انه: «يشمل التعويض عن الضرر المعنوي كل مساس بالحرية أو الشرف أو السمعة».
ب- الضرر الجسماني والضرر البيئي:
سنتولى تحديد المقصود بالضرر الجسماني، ثم البيئي وفقا لمايلي:
- الضرر الجسماني: أفرز التزايد المستمر في عدد الحوادث التي تؤدي إلى إصابات جسدية إلى ارتفاع عدد الضحايا، التي تبقى دون تعويض إما لقصور قواعد المسؤولية المدنية أو لطول الإجراءات القضائية ،الواجب اتباعها للحصول على التعويض وعدم تناسب هذا الوضع مع طبيعة وخطورة الأضرار الناتجة، عن الإصابات الجسدية دفعت بالمشرع إلى إصدار العديد من التشريعات الخاصة، يقر من خلالها حق الضحية في التعويض دون أي اعتبار للمسؤولية المدنية ، وظهور نوع جديد من المخاطر والتي تعرف بأنها مخاطر اجتماعية، التي كان لها الدور الأساس في التخلي عن منطق المسؤولية المدنية والتوجه نحو نظام التعويض التلقائي عن الإصابات الجسدية، وقام المشرع الجزائري بعد تعديل 2005، بإقرار مبدأ عامة خاص بتعويض الأضرار الناتجة عن الإصابات الجسدية بإدراج المادة 140 مكرر 01 والتي تنص على أنه: «إذا انعدم المسؤول عن الضرر الجسماني ،ولم تكن للمضرور يد فيه تتكفل الدولة بالتعويض عن هذا الضرر»، والذي يعد أول نص في إطار القواعد العامة، يختص بمعالجة الأضرار الجسمانية، وكرس من خلاله نظاما جديدا يتراوح بين المسؤولية المدنية والتلقائية يلزم من خلاله الدولة التكفل بالأضرار الجسمانية، في حالة غياب المسؤول عن هذه الأضرار[8]، كما أسفرت تشريعات خاصة عن ظهور نظام تعويض تلقائي، يستبعد من خلال مبدأه قواعد المسؤولية المدنية في مجال التعويض عن الإصابات الجسدية، ويمتاز بالتلقائية في منح الحق في التعويض كالأمر رقم: 74/15 المتعلق بالتأمين عن السيارات[9]، والقانون رقم: 83/13 المتعلق بحوادث العمل والأمراض المهنية[10]، والقانون رقم: 90/20 المتعلق بالتعويضات الناجمة عن قانون العفو الشامل[11]، والمرسوم التنفيذي رقم: 99/47 المتعلق بمنح تعويضات لصالح الأشخاص الطبيعيين ضحايا الأضرار الجسدية أو المادية التي لحقت بهم نتيجة أعمال إرهابية، أو حوادث وقعت في إطار مكافحة الإرهاب وكذا لصالح ذوي حقوقهم[12]، والمرسوم رقم: 02/125 الذي يحدد حقوق ضحايا الأحداث التي رافقت الحركة من اجل استكمال الهوية الوطنية، ويتعلق الأمر بالأحداث التي وقعت في منطقة القبائل، المطالبة بالاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة وطنية ورسمية والتي انجر عنها أضرار جسمانية ومادية، كتحطيم الممتلكات ووقعت هذه الأحداث بين سنتي 2001 و2004، ونظرا لما خلفته تلك الأحداث وتأثيرها على الاستقرار والسلم الاجتماعي تدخلت الدولة عن طريق استحداث المرسوم رقم: 02/125 وبموجب المادة 120 من القانون رقم: 02/11 المتضمن قانون المالية لسنة 2003 تمخض عنه إنشاء صندوق تعويض ضحايا وذوي حقوق ضحايا الأحداث التي رافقت الحركة من أجل استكمال الهوية الوطنية[13].
ووضعت هذه التشريعات آليات خاصة ،بتعويض ضحايا الأضرار الجسمانية أيا كانت الظروف التي حصلت فيها، كاستحداث صناديق خاصة أو حسابات تخصيص لتعويض الضحايا.
كما شهد التشريع الفرنسي العديد من الأنظمة الظرفية، التي سنت لمواجهة ظروف معينة والتكفل بضحايا هذه الظروف، على سبيل المثال قام التشريع الفرنسي سنة 1989 بإنشاء صندوق للتكفل بضحايا الدم الملوث، وفي 23 ديسمبر 2000 قام بإنشاء صندوق للتكفل بضحايا تلوث الهواء بمادة الحرير الصخري الأميونت، ويعتبر التشريع النيوزيلندي الرائد في مجال استبعاد نظام المسؤولية ،من مجال التعويض عن الأضرار الناتجة عن الإصابات الجسدية التي يعود سببها لوقوع حادث، حيث تم اقتراح وضع نظام تعويض فوري ودون أن تقوم الضحية بإثبات خطأ المسؤول، ودون اعتبار لخطأها المحتمل ومهما كان مكان وقوع الحادث، فيستوي أن يكون قد وقع في مكان العمل أو الطريق أو المنزل تضمن من خلاله الدولة التعويض لكل ضحية، وتم تكريس هذا النظام بموجب قانون التعويض عن الحوادث الذي دخل حيز التنفيذ في 01 أفريل 1974، حيث أن المادة 05 من هذا القانون تمنع المضرور و/أو ذوي حقوق الضحية المتوفاة، من اللجوء إلى دعوى المسؤولية المدنية إذا كانت الأضرار، التي لحقتها نتيجة إصابة جسدية بسبب حادث حيث لم يعد الأمر يتعلق بإثبات خطأ المتسبب ،في الضرر لكن يكفي إثبات أن الضحية أصيبت بضرر جسدي بسبب حادث[14].
ويعرف الضرر الجسماني أو البدني، بأنه ذلك الذي يصيب جسم الإنسان أو كل ضرر يمس بالسلامة الجسدية للإنسان، كالضرب والقتل والتعذيب، ويتمثل الضرر الجسماني في عجز المضرور عن العمل مؤقتا، وقد يكون العجز الذي يلحق المضرور دائما سواء كان عجزا كليا أو جزئيا، وقد يتمثل في وفاة الضحية أو توقفها عن العمل، وآخر معنوي كالآلام التي تصيب المضرور، من جراء الجروح والتعذيب والتشوهات الجسدية التي تلحق به، وقد يتعذر عليه بسبب الإعاقة مباشرة بعض النشاطات الترفيهية[15].
- الضرر البيئي: في سياق الأضرار البيئية ،نجد أن المصطلحات التي صيغ بها متعددة حيث نجد هناك من درج تسميته بالضرر الإيكولوجي، في حين هناك من يعبر عنه بمصطلح الضرر البيئي، الأضرار التي تلصق بالموارد الطبيعية، التلوث، اضطراب البيئة كل هذه المصطلحات تشير إلى تغيير في التوازن البيئي، والحد من نوعية البيئية، إلا أن مصطلح التلوث فهو أضيق نطاقا من مدلول تعبير الأضرار البيئية.
فالضرر البيئي هو الأذى الحال أو المستقبلي، الذي ينال من أي عنصر من عناصر البيئة، والمترتب على نشاط الشخص أو الطبيعة، والمتمثل في الإخلال بالتوازن البيئي سواء كان صادرا من داخل البيئة الملوثة أو خارجها، حيث يمكن أن يقال عن الضرر بأنه الأذى المترتب عن مجموعة من الأنشطة الطبيعية والإنسانية، التي تغير من صفات المحيط البيئي لمجموعة من الأشخاص بصورة مباشرة أو غير مباشرة، تعرضهم للإصابة في أجسامهم وأموالهم، أو يؤذيهم معنويا أو أن يلحق الأذى بكائنات حية أو غير حية[16].
وللضرر البيئي عدة مجالات على رأسها:
• الضرر الذي يصيب التنوع البيولوجي.
• الضرر الذي يصيب المناظر الطبيعية، مما يؤدي إلى فقدان المظاهر الجمالية والتمتع بها وفقدان الموارد السياحية.
• الضرر الذي يؤدي إلى فقدان الموارد الاقتصادية بسبب إتلاف العناصر البيئية.
ويتميز الضرر البيئي ببعض الخصائص، التي تزيد من صعوبات إثباته من قبل المضرور فهو في الأصل ضرر عيني ،وهو ما يعبر عنه غالبية فقهاء القانون الفرنسي بانه الضرر الخالص الذي تصعب الإحاطة به، من مختلف جوانبه نظرا للخصائص التي يتميز بها[17]، كونه يصيب الموارد البيئية بالدرجة الأولى ،وليس الشخص على غرار تلوث المياه أو الهواء، ثم تنعكس بعد ذلك على الأشخاص وممتلكاتهم ،كأن يكون ضررا غير مباشر وهو ضرر ذو طابع انتشاري، فيكون أوسع نطاقا زمانا ومكانا من حيث آثار إصابته وهو ضرر متراخي يظهر بصفة تدريجية[18]، وأصبح من غير العدل بقاء الضرر البيئي دون تعويض نتيجة تطوره وتداخل العديد ،من العوامل التي تساهم في إحداثه، لذلك اتجهت بعض التشريعات، ومنها التشريع اللبناني المدني المعروف بقانون الموجبات استنادا إلى المادة 134 إلى تكريس قاعدة التعويض عن الضرر غير المباشر ووضعت له شرطا وهو أن يكون متصلا اتصالا واضحا بالفعل الضار، أما المشرع الجزائري فقد أشار إلى الأضرار غير المباشرة في قانون حماية البيئة رقم: 03/10 فيما يخص الأضرار البيئية، وذلك من خلال المادة 37 منه، التي خولت للجمعيات الدفاع عن البيئة حق التعويض عن الأضرار المباشرة وغير المباشرة، بخصوص الوقائع التي تضر بالمصالح الجماعية التي تهدف إلى الدفاع عنها، ونفس الاتجاه ذهب إليه المشرع الفرنسي من قانون بارنيه الصادر في فيفري 1995، حيث رخص لجمعيات حماية البيئة بأن تباشر حق التقاضي في الجرائم، التي يترتب عليها أضرار مباشرة أو غير مباشرة تصيب المصالح الجماعية التي تهدف للدفاع عنها[19].
إذن يمكن القول أن الخصائص، التي تميز الضرر البيئي كانت وراء استحداث أسس جديدة لدعوى المسؤولية، ومن ثم صيغ بديلة ومختلفة لوظيفة المسؤولية المدنية في المحافظة على البيئة ،من خلال محاولة منع حدوث الأضرار البيئية قبل حدوثها دون الاكتفاء بالجانب التعويضي فيها، وذلك وفقا للمبادئ القانونية المنظمة لحماية البيئة ومنها مبدأ الحيطة، مبدأ الملوث الدافع، مبدأ الإعلام والمشاركة، ووسعت من وظيفة المسؤولية المدنية التي أصبحت لها وظيفة وقائية[20]، فمن يمارس نشاطا يمكن أن يضر بالبيئة يعمل كل ما في وسعه، في اتخاذ جميع الاحتياطات والتدابير، التي يوفرها له العلم الحديث لأجل منع حدوث التلوث ،أو على الأقل تقليله إلى المستويات المقبولة تجنبا لإلزامه بالتعويضات التي غالبا ما تكون مكلفة.
ثانيا: شروط الضرر:
يشترط في الضرر باعتباره ركن من أركان المسؤولية المدنية أن يكون محققا ومباشرا وشخصيا ولم يعوض بعد.
01 – الضرر المحقق والمؤكد:
يشترط في الضرر لإمكان الحكم بالتعويض عنه أن يكون محققا، والضرر المحقق هو الأذى الذي وقع في الحال والذي سيقع في المستقبل، والضرر الواقع في الحال هو الضرر الذي اكتملت كل عناصره نهائيا، ومثال ذلك موت الشخص نتيجة لاستنشاقه غازات سامة ولتعرضه للإشعاعات المنبعثة من معمل يتعامل مع المواد المشعة، أما الضرر المستقبلي فهو الأذى ،الذي تحقق سببه ولكن لم تظهر آثاره أو بعضها كإصابة عامل بضرر يكون من المحقق، أنها تقضي إلى عجزه كليا أو جزئيا عن العمل في المستقبل[21].
وتجدر الإشارة في هذا الخصوص إلى أن المادة 131 ق.م.ج، تسمح للمضرور أن يطالب خلال مدة معينة بإعادة النظر في تقدير التعويض الذي يستحقه، وهذا إذا لم يتيسر للقاضي وقت صدور الحكم، من تحديد مقدار التعويض بصفة نهائية، وتحصل مثل هذه الحالة عندما يتعلق الأمر بضرر مستقبلي، فقد يصاب المضرور بجروح ستنال حتما من قدرته على العمل في المستقبل ،غير أنه يصعب تحديد مقدار هذا العجز وقت وقوع الإصابة[22]، ولكن الملاحظ أن الضرر المستقبلي تعد حالاته قليلة مقارنة بعدد حالات الضرر المحقق التي يتم التعويض عنها، أما الضرر الاحتمالي فهو الأذى الذي لم يتحقق ولا يوجد ما يؤكد وقوعه أو تحققه، فالأمر بالنسبة لهذا النوع من الضرر يحتمل حدوثه أو عدم حدوثه ولا يعوض عنه ،إلا إذا وقع فعلا أو صار وقوعه في المستقبل مؤكدا، ونجد أن القضاء استقر على عدم التعويض عن الأضرار الاحتمالية[23]، ومثال ذلك لا تعويض عن احتمال انتشار الأمراض المختلفة، التي يمكن أن يصاب بها الشخص نتيجة لتلوث البيئة مستقبلا، كذلك أن يقوم شخص بعمل يؤدي، إلى إتلاف مزروعات جاره ويخشى معه أن تصبح الأرض غير صالحة للزراعة لسنوات عدة، ففي هذه الحالة يكون التعويض عن الضرر المحقق ،وهو ما أصاب المزروعات من تلف أما الضرر الاحتمالي وهو عدم صلاحية الأرض للزراعة، فلا يجب التعويض عنه إلا إذا وقع فعلا.
وعليه يمكننا أن نخلص بالقول بان الضرر المحقق وهو الضرر المؤكد الحدوث سواء كان حالا أي وقع فعلا، أم كان مستقبلا إذا كان وجوده مؤكدا وإن تراخى وقوعه إلى زمن لاحق[24].
وتجدر الإشارة إلى أن الاجتهاد القضائي الفرنسي، يميز بين الخطر الثابت والمعروف من جهة والخطر غير المؤكد أو المشبوه من جهة أحرى، حيث لا يتردد في تعويض الضرر المحقق أو المستقبل ،المتولد عن وجود الخطر الثابت كانخفاض قيمة الممتلكات بسبب تعرضها للخطر، وكذا تعويض النفقات المترتبة عن الإجراءات المتخذة لتجنب الخطر، ويكون الخطر غير مؤكد أو مشبوه، إذا تعلق الشك بوجود الخطر في حد ذاته كما هو الحال بالنسبة للمحطات الهوائية للهواتف النقالة ،التي أثارت جدلا كبيرا على مستوى المحاكم في فرنسا، فبعضها رفض التعويض لأن اليقين بالنسبة للخطر غير متوفر فيما اعتمد البعض الآخر، مبدأ الحيطة لتبرير التعويض، ويقول الدكتور فيلالي علي أن محكمة النقض الفرنسية لم تفصل في هذه المسألة[25].
02 – الضرر المباشر:
الضرر المباشر هو الذي يكون نتيجة طبيعية للخطأ، وهو يعد كذلك إذا لم يكن بإمكان الدائن أو المضرور تجنبه ببذل جهد معقول، أما الضرر غير المباشر فهو الذي لا يكون نتيجة طبيعية مألوف للخطأ ،وهو يعد كذلك إذا كان بإمكان الدائن أو المضرور تجنبه ببذل جهد معقول، ومعيار توقع الضرر معيار موضوعي وهو معيار الرجل المعتاد[26].
وعليه نخلص للقول أن التعويض يكون عن الضرر المادي المباشر، دون الضرر المادي غير المباشر.
وتمييز الضرر المباشر عن الضرر الغير مباشر، يكون في إطار علاقة السببية، والاتجاه العام السائد في غالبية التشريعات، يقضي بوجوب التعويض عن الأضرار المباشرة أما الأضرار غير المباشرة فإنه لا يتوجب التعويض عنها، والسبب وراء ذلك انعدام الرابطة السببية بين فعل المدعى عليه والضرر غير المباشر، وتعد رابطة السببية ركنا أساسيا في المسؤولية المدنية عقدية كانت أو تقصيرية، فإن انتفت الرابطة عندئذ لا تقام المسؤولية[27].
03 – الضرر الشخصي:
الأصل أنه ليس لمن لم يلحقه ضررا شخصيا أن يطالب بالتعويض، فالطابع الشخصي يفيد الخسارة المعنوية أو المالية التي لحقت بالمضرور، كما تقضي القاعدة لا دعوى بدون مصلحة، كما نصت على ذلك المادة 13 فقرة 01 ق.إ.م.إ بقولها: «لا يجوز لأي شخص التقاضي ما لم تكن له صفة، وله مصلحة قائمة أو محتملة يقرها القانون»، لذا ينبغي أن يكون الضرر شخصيا وإلا كانت الدعوى غير مقبولة، ويثار هذا الشرط في حالتين الضرر المرتد، والمساس بالمصالح الجماعية.
أ – الضرر المرتد:
يصيب الضرر الشخص مباشرة، غير انه قد يمتد للغير، وهو الضرر المعروف بالضرر الممتد، أي يصيب أشخاص آخرين مثال الضرر الذي يصيب أفراد الأسرة أو الضرر الذي يصيب عمال مؤسسة ما، أو زبائن أو مستهلكين عند تلك المؤسسة التي أصابها الضرر مباشرة، لخدماتها أو سلعها[28]، بمعنى أن الضرر المرتد هو ضرر تبعي يتولد عن الضرر الأصلي، يصيب أشخاص آخرين غير المضرور[29]، ومثال ذلك لو توفي شخص بسبب حادث مرور وكان هو المعيل الوحيد، لأسرته المكونة من الزوجة والأبناء في هذه الحالة تعتبر الوفاة ضررا أصليا، أصاب المتوفي مباشرة، وفي الوقت ذاته تعتبر الوفاة ضررا مرتدا أصاب الزوجة والأولاد، فيجوز لهم المطالبة بالتعويض عن الضرر الذي أصابهم.
وتجدر الإشارة إلى أن التعويض عن الضرر المرتد، لا يقتصر على حالة موت المصاب بل يشمل حتى حالات تضرر، من كان قريبا للضحية ماديا أو أدبيا بسبب تعرض المضرور لاعتداء أو جراء إصابة خلفت عاهة من العاهات أو سببت له تشويها خلقيا على الرغم من بقائه على قيد الحياة، ونشير في هذا الخصوص إلى أن القضاء العراقي استقر على عدم قبول دعاوى التعويض من قبل المتضررين بالارتداد، إلا في حالة موت المصاب[30].
ويتبين من القانون المقارن أن جل القوانين، أصبحت تسمح بتعويض الأضرار المرتدة غير أن هناك خلافا بينها بشان تحديد الأقارب أو الأشخاص ،الذين يحق لهم المطالبة بالتعويض، فالقانون الفرنسي الذي كان يشترط وجود علاقة قانونية والمتمثلة في واجب النفقة بالنسبة لمن يدعي ضررا ماديا ،وفي وجود علاقة قرابة بالنسبة للضحية أصبح يكتفي بوجود مصلحة مشروعة فقط للمضرور، وتنحصر دائرة الأقارب بالنسبة للقانون المصري والكويتي والسوري والليبي والجزائري في الأزواج والأقارب إلى الدرجة الثانية أي الأحفاد والآباء والأجداد والأمهات والجدات والإخوة والأخوات[31]، غير أنه في التشريع الجزائري لا يستحق الإخوة والأخوات التعويض، إلا إذا أثبتوا بكفالة مفهوم الضمان الاجتماعي بواسطة وثيقة رسمية أن الضحية كانت تعولهم، ويشترط لطلب الشخص تعويض عن الضرر المرتد، أن ينشأ عن الإصابة أو الوفاة الإخلال بحق ثابت يحميه القانون.
ب- المصالح الجماعية:
من المعلوم أن الشخص المضرور، تتوفر له الصفة في دعوى المسؤولية إذا أصيب بضرر شخصي مباشر في شخصه أو في أمواله، حيث تتوفر له المصلحة الشخصية المباشرة ولا صعوبة في هذه الحالة، ولكن تثار الصعوبة بالنسبة للأضرار التي تمس فئة معينة من الناس أو مصالح جماعية[32]، كالمساس بحقوق العمال أو المستهلكين، فهل يجوز للعامل أو المستهلك أن يطالب باسمه الخاص تعويضا، عن مثل هذه الأضرار؟ وهل يتوفر الطابع الشخصي في مثل هذه الأضرار مما يسمح لكل فرد من أفراد هذه الفئة أو الجماعة المطالبة بالتعويض؟
انشغل المشرع بحماية هذه الحقوق والمصالح الجماعية، باستحداثه في بعض الحالات لأشخاص معنوية تتولى الدفاع عن هذه الحقوق، حيث كرس المشرع الجزائري حق الجمعيات في التقاضي والدفاع عن المصالح المشروعة المرتبطة بأهدافها عن طريق اللجوء للجهات القضائية المختصة، إذ نجد القانون 03/10 والمتعلق بحماية البيئة وضمن الفصل السادس منه والمعنون بتدخل الأشخاص والجمعيات في مجال حماية البيئة حيث جاء في نص المادة 36 من هذا القانون ما يلي: «دون الإخلال بالأحكام القانونية السارية المفعول يمكن للجمعيات المنصوص عليها في المادة 36 رفع دعوى أمام الجهات القضائية المختصة، عن كل مساس بالبيئة حتى في الحالات التي لا تعني الأشخاص المنتسبين لها بانتظام»[33]، وفقا للأحكام الواردة ضمن نص هذه المادة فإن قانون حماية البيئة قد مكن كل جمعية يتضمن موضوعها حماية الطبيعة والبيئة رفع دعوى أمام الجهات القضائية المختصة، على كل مساس بالبيئة حتى في الحالات التي لا تعني الأشخاص المنتسبين لها بانتظام بخصوص الأفعال، التي تلحق ضررا مباشر أو غير مباشر بالمصالح الجماعية التي تدافع عنها[34].
كما نصت المادة 23 من القانون رقم: 09/03 على أنه: «عندما يتعرض مستهلك أو عدة مستهلكين لأضرار فردية، تسبب فيها نفس المتدخل وذات أصل مشترك يمكن لجمعيات حماية المستهلك أن تتأسس كطرف مدني»[35]،
فهذه الأشخاص الاعتبارية بمختلف أنواعها من جمعيات مدنية واجتماعية وسياسية وثقافية والتي يزداد عددها من يوم لآخر، أصبحت تمثل الإطار الأفضل للدفاع عن المصالح المشتركة ،كما تفضل السلطات العمومية هذا الإطار لمعالجة المشاكل التي تطرحها الفئات المختلفة للمجتمع[36].
04 – ألا يكون التعويض عن ضرر قد سبق التعويض عنه:
إن مناط التعويض هو جبر الضرر، بصوره المختلفة فإذا استطاع المضرور من كسب دعواه والحصول على تعويض عما لحقه من ضرر، فلا يجوز له أن يرفع دعوى أخرى قائمة على السبب نفسه والموضوع والخصوم، لأن الغاية من التعويض هي جبر الضرر لا إثراء المضرور على حساب الفاعل، إلا إذا اختلف سبب الدعوى أو مصدر الضرر أو غايته[37]، حيث أنه إذا زاد التعويض عن الضرر أثري المضرور، على حساب المسؤول بغير سبب، وإن نقص مقدار التعويض عما لحقه من ضرر اختلت العدالة ولا يمس ذلك بحق المضرور في المطالبة بتعويض تكميلي، في حالة تجزئة المطالبة بالتعويض[38].
أما بشأن مسألة الجمع بين التعويضات فقد ذهب الفقه والقضاء سواء المصري أو الجزائري إلى أنه بدفع شركة التأمين التعويضات المستحقة، يكون الضرر الذي يدعيه المضرور قد زال تبعا للتعويضات التي تحصل عليها، ومن ثمة تكون الدعوى المرفوعة من قبل المضرور ضد المسؤول غير مقبولة ،وأن الجميع بين التعويضات يعتبر إثراء بلا سبب وهذا ما لا يسمح به القانون، حيث وبمقتضى مبدأ عدم جواز الجمع بين التعويضات المختلفة خولت المادة 48 من القانون 83/15 ،في حالة وجود مسؤول عن الضرر لهيئة الضمان الاجتماعي ،رفع دعوى أمام الجهات القضائية ضد المتسبب في الحادث قصد تسديد ما أـنفقته أو ما عليها أن تنفقه[39].
كما كرست المادة 69 فقرة 03 من القانون 08/08 المتعلق بمنازعات الضمان الاجتماعي سالف الذكر على أنه: «حق رجوع المؤمن له اجتماعيا أو ذوي حقوقه ضد مرتكب الخطأ قصد الحصول على تعويض تكميلي»، كما يكن للمؤمن له أو ذوي حقوقه بموجب المادة 72 من نفس القانون الحق في مطالبة الغير أو المستخدم بتعويضات إضافية[40].
أما المادة 38 من القانون 95/07 المتعلق بالتأمينات فقد نصت على أنه: «يحل المؤمن محل المؤمن له في الحقوق والدعاوى، تجاه الغير المسؤولون في حدود التعويض المدفوع له»[41]، ويجب أن يستفيد أولويا المؤمن له من دعوى رجوع حتى استيفائه التعويض الكلي حسب المسؤوليات المترتبة.
كما أشار أيضا الأمر رقم: 74/15 إلى حق المؤمن في الحلول، حيث جاء في مادته 11 ما يلي: «في حالة اختلاط الحوادث أو ملازمتها أو تعددها والمؤدية إلى أضرار جسمانية يتحمل التعويض للضحية أو الضحايا الصندوق الخاص للتعويضات الذي يحل في حقوق الضحايا، تجاه مسبب الحادث أو الشخص المسؤول مدنيا»[42].
إذا كان هذا هو الرأي السائد حاليا، إلا أنه لا يجب الخلط بين الجمع بين تعويضين عن نفس الضرر، وبين مطالبة المضرور بتكملة التعويض، فإذا كان المضرور مؤمن عن نفسه ضد ما قد يصيبه، من حوادث فله بعد الحصول على التعويض من قبل شركة التأمين ،أن يطالب محدث الضرر بما لم يشمله مبلغ التأمين، فشركة التأمين لا تدفع غالبا إلا المبلغ المحدد في وثيقة التأمين، بغير موازنة بينه وبين ما وقع من ضرر، وبما أن التعويض الذي تدفعه عادة شركات التأمين سواء كانت اقتصادية او اجتماعية جزئيا جاز للمضرور، أن يطالب بالمسؤولية المدنية بغية إكمال التعويض المقبوض من هذه الأجهزة ،عندما لا يكون التعويض لا يغطي كامل الضرر، وهو ما أشارت إليه العديد من مواد القانون الجزائري، وبالتالي يكون للمضرور بعد حصوله على التعويض من شركة التأمين، أو من نظام التعويض الاجتماعي حق الادعاء بالمسؤولية المدنية ومطالبة المسؤول، بتكملة التعويض بشرط ألا يقبل المضرور إلا المبلغ أو القيمة اللازمة لتحقيق التعويض الكامل للضرر[43].
وينبغي أن نفهم قاعدة الجمع بين التعويضات المنصوص عليها قانونا والمقررة قضاء بمعناها الصحيح، إذ المقصود هنا هو عدم الجمع بين أداءات شركات التامين وأداءات هيئة الضمان الاجتماعي ،كون أن أساس التعويض في كلتا الحالتين مشترك وطبيعة عمل شركات التأمين وصناديق الضمان الاجتماعي، متشابهة إلى حد كبير رغم اختلاف طبيعة كل منهما، ومن ثم فلا يجوز ضم التعويضين معا لما فيه من شبهة الإثراء بلا سبب، فالقانون نفسه لم يمنع الجمع بين تعويض هيئة الضمان الاجتماعي والتعويض المدني الذي يرفع ضد مرتكب الحادث عمدا، حيث يجيز قانون منازعات الضمان الاجتماعي للعامل أن يرفع بالتوازي دعويين ،واحدة ضد شركة التأمين والأخرى ضد المتسبب في الحادث، إذا ثبت أنه متعمد، كما يمكن رفع دعوى الرجوع عليه من قبل هيئة الضمان الاجتماعي، والهدف من دعوى المسؤولية المدنية هو الوصول إلى التعويض الكامل عن طريق المطالبة بتعويض إضافي زيادة على تعويض هيئة الضمان الاجتماعي، ومن ثمة فالجمع بين التعويضين ،ليس مضاعفة له وإنما تكميل لبعضهما البعض بما يحقق جبرا للضرر، الذي لحق العامل المصاب أحدهما يؤسس على المسؤولية المهنية لحوادث العمل، وثانيهما يؤسس على المسؤولية المدنية الشخصية[44].
في نهاية المطاف يمكن أن نقول بشان الأضرار المستحدثة، والتي ظهرت بظهور مخاطر جديدة بدأت ملامحها وأخرى مستقبلية كالمخاطر البيئية، مخاطر لها علاقة بالإنتاج والاستهلاك، المجال الطبي، ... إلخ، وشروط الضرر التي ينبغي أن يكون حال ومحقق بدأ الفقه والقضاء لا يدقق فيها، فبعد ظهور مبدأ الحيطة مثلا أصبحت القواعد والشروط التي كنا نتكلم عنها بخصوص الضرر لا يتقيد بها، وبدأ الحديث عن أنواع جديدة من الأضرار التي لو تطبق عليها الشروط الكلاسيكية للضرر، لا يمكن أن ترفع دعوى بشأنها كونها لا تتوفر فيها تلك الشروط، لكن نظرا للمخاطر التي بسببها هناك قضايا كثيرة ترتبط بالضرر المستقبلي، بعد أن كان استثناءا، وفي هذا الإطار تقول: كاثرين بأن هناك ظهور لمفاهيم جديدة للضرر على غرار (الأضرار الجماعية- الأضرار المستقبلية- الأضرار الارتدادية- الأضرار الغير قابلة للدفع) ،وهي أضرار من نوع خاص، حيث ظهرت خصائص جديدة للضرر في القانون الحالي ،قد لا تشبه الخصائص والشروط الكلاسيكية، حيث انتقل الاهتمام من الضرر المباشر والغير مباشر إلى إدراج ضوابط جديدة بشأن الضرر من حيث التحديد والتقدير وكذا من حيث الحكم بالتعويض، وأصبح قانون المسؤولية المدنية مطالب بإيجاد صياغات جديدة تستجيب لهذه المخاطر ضمن مختلف المجالات ،التي تهدد المجتمع بأسره سواء في الشق البيئي أو الصحي أو الاستهلاكي ...ألخ ، وإذا كانت هناك حاجة لصياغة لالتزامات جديدة مع هذه التحديات الجديدة ، فإنه لا يجب الانتظار لغاية حصول الضرر لأن هذه الأضرار من نوع آخر، لذا فالتحولات الكبرى الجديدة يجب أن البحث لها عن التزامات جديدة تتناسب أكثر مع الأفكار الجديدة للمخاطر الجديدة، كمبدأ الحيطة- مبدأ الملوث الدافع- الالتزام بالتتبع[45] -
المحور الرابع: العلاقة بين المسؤولية المدنية وأنظمة التعويضتعد علاقة السببية الركن الثالث في المسؤولية المدنية عموما، فلا يكفي أن يقع خطأ من المسؤول وأن يلحق ضرر بالمتضرر، بل لابد أن يكون هذا الخطأ هو السبب في حدوث هذا الضرر، وهذا هو معنى علاقة السببية بين الخطأ والضرر[1]. وقد عبر المشرع الجزائري عن ركن السببية في المادة 124 ق.م.ج بكلمة «ويسبب» إذ نصت على أن: «كل فعل أيا كان يرتكبه الشخص بخطئه ويسبب ضررا للغير يلزم من كان سببا في حدوثه بالتعويض»، وبالتالي لا يكتمل فهمنا للمسؤولية إلا من خلال الإحاطة بمضمون هذه العلاقة وأهم الأفكار التي تقوم عليها. أولا: مفهوم علاقة السببية: علاقة أو رابطة السببية كما هو متعارف عليه، تتمثل في الصلة التي تربط ما بين الفعل والنتيجة، وتثبت أن ارتكاب الفعل هو الذي أدى إلى حدوث هذه النتيجة، ومادامت دراستنا تدور حول المسؤولية المدنية، فإن رابطة السببية تعرف وفقا لذلك بأنها الصلة التي تربط ما بين الخطأ أو الفعل الضار والضرر الناتج عنه، وتعد العلاقة السببية شرطا ضروريا لقيام المسؤولية المدنية سواء كانت عقدية أو تقصيرية. وما تجدر الإشارة إليه هو عدم كفاية وجود الخطأ والضرر للقول بقيام المسؤولية، بل لابد أن يكون الخطأ هو السبب، الذي أدى إلى وقوع الضرر لأنه قد يقع الخطأ والضرر ولا توجد بينهما رابطة السببية، وبالتالي لا تقوم المسؤولية. وخلاصة القول أن المقصود بعلاقة السببية باعتبارها الركن الثالث من أركان المسؤولية هو توافر الارتباط السببي، بين ركني المسؤولية من ضرر وخطأ أي بصفة عامة الفعل الموجب للمسؤولية، وهو الأمر الذي يستلزم أن يكون الخطأ مقترنا بالضرر اقتران السبب بالمسبب، بحيث لا يتصور وقوع الضرر بغير قيام هذا الخطأ[2].01 – الصعوبات التي يثيرها تقدير العلاقة السببية: تثير العلاقة السببية صعوبة عن تقديرها أحيانا لسببين: - تعدد النتائج التي ترتبت على سبب واحد، بمعنى يمكن أن يترتب على خطأ ما ضرر أو يلحقه وقوع ضرر ثاني ثم ثالث، وهذا ما يسمى بتعاقب الأضرار. - اجتماع عدد من الأسباب في إحداث الضرر، فإذا تعددت النتائج الناشئة عن خطأ واحد توافرت العلاقة السببية بالنسبة للنتائج المباشرة لذلك الخطأ، وتوصف النتائج عندئذ بأنها أضرار مباشرة، لذلك اقترح الفقه في هذا الشأن نظريتين رئيسيتين نتناولهما ثم نحدد موقف المشرع الجزائري من هذه المسألة: أ – نظرية تعدد أو تكافؤ الأسباب: هذه النظرية ذات منشأ ألماني من طرف الفقيه فونبري[3]، وأخذ بها بعض الفقه، وأساس هذه النظرية أنه لا يمكن فصل العوامل التي ساهمت في وقوع الضرر، فكل سبب عاصر إحداث الضرر مهما كان بعيدا يعتبر سببا في حدوثه، فإذا تدخلت عدة أسباب في ذلك اعتبر كل سبب منها، سببا للضرر، فجميع العوامل التي ساهمت في أحداث الضرر تكون أسباب متعادلة أو متكافئة في حكم القانون، لأنه إذا تخلف أحد العوامل لم يقع الضرر، ويترتب على هذه النظرية المسؤولية في التعويض، وتشمل كل الأشخاص الذين ساهم خطأ كل واحد منهم في إلحاق الضرر، فإذا اشترك في الخطأ الذي أدى إلى الضرر أكثر من شخص فإنهم يسألون جميع عن هذا الضرر بغض النظر عن الضرر المباشر الذي أدى إلى حدوث الضرر[4]. ويرى منتقدو هذه النظرية أنه ليس كل فعل ساهم فمي إحداث الضرر يؤخذ في الاعتبار، بل يجب التمييز بين الأفعال المتسببة فعلا في الضرر أي المنتجة له وتلك التي لم تكن سببا فيه. ب- نظرية السبب المنتج: ظهرت هذه النظرية أيضا في ألمانيا، عن طريق الفقيه فون كريس وانتقلت منها إلى فرنسا ومنها إلى بقية الدول، ويحبذ الفقه والقضاء المعاصران الأخذ بها، ومؤداها أنه إذا تداخلت عدة أسباب في إحداث الضرر، فيجب التفرقة بين الأسباب العارضة والأسباب المنتجة، وبالتالي إقامة وزن للأسباب المنتجة فقط، واعتبارها وحدها المتسببة في الضرر، وبالتالي إهمال الأسباب العارضة وعدم أخطها بعين الاعتبار[5]. فالسبب المنتج هو ذلك السبب الذي يؤدي بحسب المجرى الطبيعي للأمور إلى وقوع مثل هذا الضرر الذي وقع، وإلا فإنه شيء عرضي لا يهتم به القانون، والأثر الذي يترتب على تعدد الأسباب أنه يجب الاعتداد بها جميعا[6]. وتبعا لهذه النظرية يعد فعل الشخص سببا للنتيجة ،ولو تدخلت عوامل سابقة أو لاحقة أو معاصرة على الفعل المرتكب مادامت هذه العوامل متوقعة ومألوفة، وفي حالة تدخل عامل شاذ أو نادر أو غير متوقع فإنه يكفي لقطع علاقة السببية، وإن كانت هذه النظرية تقوم على أساس اختيار السبب الأكثر تأثيرا ،من غيره في إحداث الضرر لتنوط به الرابطة بين الخطأ والضرر، فإنها في سبيل أن تحدد هذا السبب من بين مجموعة الأسباب التي ساهمت في إحداث الضرر، يكون لزاما عليها أن تلجأ إلى الفرض والتخمين وتبتعد عن الجزم واليقين، وبالتالي فإن ما تصل إليه من نتائج يقوم على قدر كبير من الاحتمال والترجيح وإن كان احتمالا وترجيحا موضوعيا وليس شخصيا[7]. ج – مفهوم علاقة السببية في التشريع الجزائري: هناك إجماع على أن التشريع الجزائري قد ساير التشريعات العربية خاصة القانون المصري الذي ساير بدوره القانون الفرنسي والذي أخذ بنظرية السبب المنتج، وحجتهم في ذلك المادة 182 ق.م.ج التي تقضي بأنه: «إذا لم يكن التعويض مقدرا في العقد أو في القانون فالقاضي هو الذي يقدره، ويشكل التعويض ما لحق الدائن من خسارة وما فاته من كسب بشرط أن يكون هذا نتيجة طبيعية لعدم الوفاء بالالتزام أو بالتأخير في الوفاء به ...»، فالاعتداد بالضرر الذي يكون نتيجة طبيعية لعدم الوفاء بالتزام يعني بالنسبة للفقهاء أن المشرع الجزائري ،أخذ حتما بنظرية السبب المنتج، وتجدر الإشارة إلى أنه في حالة وجود علاقة سببية سواء أكانت العبرة بنظرية تكافؤ الأسباب أو بنظرية السبب المنتج بين الضرر وعدة أسباب منسوبة إلى عدة أشخاص ،بحيث تقع المسؤولية على أكثر من شخص فيكون هؤلاء متضامنين في التزامهم بتعويض الضرر، وتكون المسؤولية فيما بينهم بالتساوي إلا إذا عين القاضي نصيب كل واحد منهم في الالتزام بالتعويض، وهو ما أكدته المادة 126 ق.م.ج[8]. ثانيا: إثبات علاقة السببية: يثير موضوع إثبات علاقة السببية مسألتين على وجه الخصوص، وهما على التوالي: من يتحمل عبء إثبات علاقة السببية، ووسائل إثباتها. 01 – عبء إثبات علاقة السببية: يتحمل المضرور مبدئيا عبء إثبات رابطة السببية ،وإن كان إثبات الضرر يعد أمرا لا يثير كثيرا من الصعوبات، إلا أن الأمر يختلف فيما يتعلق بإثبات الخطأ ورابطة السببية، ويصبح إثبات رابطة السببية أكثر تعقيدا إذا استلزم الأمر، إثبات أكثر من رابطة سببية واحدة بين كل شخص مسؤول ،أو مساهم في إحداث الضرر وبين الضرر الذي حدث والأمر الذي ساهم في إحداث الضرر، لكل صاحب نشاط ضار ساهم في إحداثه، ومن ثمة يجد المضرور صعوبة في إثبات هذه الرابطة بين فعل الآخرين وبين ضرر مؤكد قد لحق به فيضيع حقه في التعويض نتيجة لذلك[9]. وتطبيقا ومراعاة لجانب المضرور الذي يقع على عاتقه عبء إثبات رابطة السببية فقد تساهل القضاء في هذا الأمر بإقامة قرينة لصالح المضرور، إذا كان من شان الفعل أن يحدث ضررا، لذلك فإنه يمكن اللجوء للاحتمال والظن، بحيث يكون الدليل احتمالي على وجود السببية بين الفعل والضرر كافيا للقول بقيام المسؤولية المدنية، ففي القانون الفرنسي على سبيل المثال وأمام صعوبات إثبات علاقة السببية ،يمكن للقاضي أن يستند إلى القرائن الخطيرة الواضحة والمطابقة وذلك طبقا للمادة 1353 ق.م.ف والتي تقضي بأنه: «في حالة صعوبات إثبات رابطة السببية يكون جائزا للقاضي أن يستند إلى القرائن القوية الواضحة»، وتطبيقا لهذا المبدأ نجد أن القضاء الفرنسي، لم يعد يقتصر على النظريات التقليدية لإثبات رابطة السببية، بل لجأ في بعض الأحيان لنظرية المخاطر أو ما يعرف بالشيء الخطير لأجل إقامة هذه العلاقة، حيث يكفي إثبات أن النشاط فيه خطورة للقول بأنه سبب حتمي لوقوع الضرر، ويعتبر النشاط خطيرا إذا انطوى على استعمال وسائل خطيرة أو تم في ظروف ،لا تخل من المخاطر كاستخدام الطاقة النووية، وفي هذه الحالة يلجأ القاضي ،إلى الاعتماد على نظرية المخاطر والأشياء الخطيرة لتسهيل إثبات الضرر[10]. تعتبر القرينة المتعلقة سواء بالخطأ أو بوجود علاقة السببية قرينة بسيطة يمكن للمسؤول عن الضرر أن يثبت عكسها، إذا أثبت أن ذلك الضرر حدث بسبب لم يكن يتوقعه مثل عمل الضحية أو عمل الغير، أو الحالة الطارئة أو القوة القاهرة، أي إذا أثبت السبب الأجنبي، مما يفيد انعدام علاقة السببية بين فعل الشيء والضرر الذي أصاب الضحية، وعلى سبيل المثال افترض المشرع الجزائري في المادة 140 فقرة 02 علاقة السببية حيث يعتبر أن الانهدام الكلي أو الجزئي للبناء، يرجع إلى إهمال في الصيانة أو قدم في البناء أو عيب فيه ما لم يثبت المالك عكس ذلك، كما وضع الاجتهاد القضائي كذلك قرينة بشان علاقة السببية ،في نطاق المسؤولية العقدية حيث يعتبر فيما يتعلق بالالتزام بتحقيق نتيجة أن مسؤولية المدين تتحقق بمجرد عدم حصول النتيجة المتعهد بها[11]. 02 – نفي علاقة السببية: تسمح المادة 127 ق.م.ج للشخص المسؤول ،أن يتخلص من مسؤوليته إذا أثبت أن: «... الضرر قد نشأ عن سبب لا يد له فيه كحادث مفاجئ أو قوة قاهرة أو خطأ صادر من المضرور أو خطأ من الغير»، ويقابله نص المادة 261 ق.م أردني و161 ق.م.م، ويترتب على أنه يمكن نفي علاقة السببية بين الخطأ والضرر، بإثبات السبب الأجنبي مما يؤدي إلى انتفاء المسؤولية، وصور السبب الأجنبي هي: القوة القاهرة- الحادث المفاجئ- خطأ المضرور- خطأ الغير. أ - المقصود بالسبب الأجنبي: سنحاول تحديد المقصود بالسبب الأجنبي وإبراز صوره كما يلي: - تعريف السبب الأجنبي: لم تعرف جل التشريعات المدنية المقارنة السبب الأجنبي وإنما اكتفت بذكر وبيان صوره، دون إيراد تعريف له، كما أن القضاء الجزائري في تطبيقاته للسبب الاجنبي لم يورد هو الآخر تعريفا محددا له ،بل اكتفى فقد بذكر صوره ونظرا للفراغ الذي اعترى النصوص، في التشريعات المدنية من فكرة تعريف السبب الأجنبي سنحاول إعطاء بعض التعريفات الفقهية، التي تباينت في مسألة تعريفه وتحديد المقصود به، فهناك جانب من الفقه أوجد تعريفا للسبب الأجنبي إلا أنه استبعد القوة القاهرة مثلا من دائرة صور السبب الأجنبي، وهو ما جاء به الفقيه سافمايته الذي اكتفى بقوله أن السبب الأجنبي ،يقتصر فقط على فعل الغير سواء كان الغير هو المتضرر نفسه أو كان شخصا آخر، وكذلك الأستاذ جوسران الذي استعد من دائرة صور السبب الأجنبي الحادث الفجائي، كما عرفه الفقيه الفرنسي ديفور مانتيل على أنه «كل واقعة تنشأ باستقلال عن إرادة المدين ولا يكون باستطاعة هذا المدين توقعها أو منع حدوثها». الملاحظ على تعريف هذا الفقيه أنه لم يحصر في تعريفه صورا محددة للسبب الأجنبي كما ضمن تعريفه عناصر وأركان لابد من توافرها في السبب الأجنبي حتى يعتد به وهي: عنصر عدم التوقع وعنصر الاستحالة للدفع[12]. ويمكن ان نعرف السبب الاجنبي، بأنه كل واقعة لا يد للحارس فيها جعلت من حدوث الضرر أمرا محتما لا يمكن لها الأخير تجنبه، وبذلك للسبب الأجنبي ركنين: الركن الأول: يتمثل في انتفاء الإسناد، بمعنى أن يكون سبب الحادث أجنبيا عن المدعى عليه وعن من يسال عنهم، بأن يكون غير قادر على توقعه وغير قادر على تجنه أو دفعه. الركن الثاني: يتمثل في السببية أي أن تكون الواقعة المدعاة كسبب أجنبي سببا في الفعل الذي أحدث الضرر، ويطلق تعبير السبب الاجنبي على كل فعل أو واقعة تسببت في حدوث الضرر ولا تسند للحارس، فقد تكون هذه الواقعة من فعل الطبيعة ويطلق عليها اصطلاح القوة القاهرة، وقد تكون من فعل الإنسان غير الحارس والتي لا تخرج عن كونها من فعل المدعي في دعوى المسؤولية ذاتها، وهي ما يسمى بفعل المضرور، وقد تكون من فعل غير المضرور وتسمى بفعل الغير، فكل من القوة القاهرة وفعل المضرور وفعل الغير يعتبر صورة أو تطبيقا للسبب الأجنبي، وكل منها يمكن اعتباره سببا أجنبيا مستقلا[13]. وقد ذكرت هذه التطبيقات الثلاثة في المادة 138 فقرة 02 ق.م.م وهي تحتوي وتشمل كل أنواع وصور السبب الأجنبي بقولها: «... إذا أثبت أن ذلك الضرر حدث سبب لم يكن يتوقعه مثل عمل الضحية أو عمل الغير أو الحالة الطارئة أو القوة القاهرة». يستخلص مما سبق أن السبب الأجنبي هو الذي ينشأ عنه الضرر، غير أن المشرع يشترط تارة عدم نسبته للمسؤول (المواد 127- 130- 137 ق.م.ج) وتارة أخرى عدم توقعه (المادة 138 فقرة 02 ق.م.ج)، ولا يمكن للمدعى عليه في القانون الفرنسي أن يدعي من قبل السبب الأجنبي ما أصابه من اختلال عقلي أو جسدي، وعكس ذلك يعتبر الاجتهاد القضائي الفرنسي أن حالة البطالة التي حلت بالمدعى عليه، تبرئ ذمته ويمكن اعتبارها كسبب أجنبي طالما أنها ناتجة عن عوامل اقتصادية أو اجتماعية لا يد للمدعى عليه فيها. - صور السبب الأجنبي: ذكر المشرع الجزائري إلى جانب القوة القاهرة والحادث المفاجئ خطأ المضرور وعمله وخطأ الغير وعمله، وقد أثارت الصيغة التي ذكر بها المشرع هذه الصور المختلفة للسبب الأجنبي في المادتين 127 و138 فقرة 02 بعض التساؤلات عن طبيعة هذا الذكر، فيعد بعض الفقهاء أن المشرع أوردها على سبيل المثال، بينما يرى آخرون وهذا هو القول الراجع أنها واردة على سبيل الحصر حيث تنعدم صور أخرى للسبب الأجنبي[14]. • القوة القاهرة والحادث المفاجئ: لم يفرق الفقهاء ولا القضاء بين القوة القاهرة والحادث الفجائي، كما ان المشرع الجزائري جرى على اعتبارهما مترادفين (المادة 127 ق.م.ج) فإذا أثبت الشخص أن الضرر قد نشأ عن سبب لا يد له فيه كالقوة القاهرة كان غير ملزم بتعويض هذا الضرر، ويشترط في القوة القاهرة أو الحادث الفجائي، أن يكون أمرا لا يمكن توقعه ولا يمكن دفعه وان يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا[15]. فالقوة القاهرة تتميز بخاصية استحالة الدفع، والحادث الفجائي يتميز بعدم إمكان التوقع، وتعرف القوة القاهرة أو الحادث الفجائي على أنه: «تلك الواقعة التي يتعذر على الإنسان دفعها والتي لا يمكن توقع حصولها عادة ويمكن إسناد الضرر الحادث للمضرور، فهي قد تتمثل بزلزال أو فيضان أو حرب أو أ ي أحداث مادية أو أزمات اقتصادية مادامت مستحيلة الدفع والتوقع»، وقد حاول بعض الفقهاء التمييز بين القوة القاهرة والحادث الفجائي، بقولهم أن القوة القاهرة هي متعلقة ومتصلة بأمر خارجي لا علاقة له بنشاط المدين كالحروب والزلزال والفيضان، في حين أن الحادث الفجائي هو أمر داخلي متصل بنشاط المدين كانفجار إطار السيارة ،أو حصول خلل في آلة كهربائية طالما ان هذا الخلل أو التحطم قد نبع من داخل الشيء دون أن يكون هناك أي عامل خارجي تدخل في ذلك [16]. والحقيقة أن الحادث المفاجئ باعتباره سببا أجنبيا ،لا يختلف عن القوة القاهرة لا من حيث شروط وجوبه ولا من حيث الآثار المترتبة عليه، وهو إعفاء المدعى عليه من مسؤوليته. • خطأ وعمل المضرور: ويقصد أن المدعى عليه هو من وقع منه الفعل الضار، ومعيار قياس خطأ المضرور هو معيار الرجل العادي، وبالتالي يعتبر المضرور قد ارتكب خطأ إذا ما انحرف عن سلوك الرجل العادي، ويستطيع المدعي أن يتمسك بخطأ المضرور ليس فقط في مواجهة المضرور، وإنما في مواجهة ورثته إذا انتهى الحادث بموت المضرور[17]. وقد نصت بعض التشريعات العربية في قوانينها المدنية على خطأ المضرور كسبب من الأسباب الأجنبية المعفية من المسؤولية إعفاءا كليا أو جزئيا سواء في المسؤولية التقصيرية أو العقدية، حيث يتحدد في الأولى في خطأ من جانب ضحية الفعل الضار، وفي الثانية في خطأ من جانب الدائن، واعتبار خطأ المضرور سببا أجنبيا معفي كليا أو جزئيا لمسؤولية المنسوب إليه الضرر، لابد أن يساهم هذا الخطأ مع خطأ صادر عن المنسوب إليه الضرر، وبالتالي فإن إعفاء المسؤول من جزء من المسؤولية أو منها كليا يعتمد على كون ما صدر من المتضرر خطأ كما نصت المادة 138 فقرة 02 ق.م.ج على فعل المضرور غير الخاطئ كسبب أجنبي معفي ،من المسؤولية عن فعل الأشياء غير الحية بقولها:«يعفى من هذه المسؤولية الحارس للشيء إذا أثبت أن ذلك الضرر حدث لسبب لم يكن يتوقعه مثل عمل الضحية أو عمل الغير أو الحالة الطارئة أو القوة القاهرة». يتضح من نص هذه المادة أن المشرع الجزائري ،اعتبر مجرد الفعل غير الخاطئ الصادر من المضرور سببا أجنبيا يعفي الحارس من المسؤولية عن فعل الأشياء غير الحية بعدما نص في المادة 127 ق.م.ج على فعل المضرور الخاطئ كسبب أجنبي معفي من المسؤولية عن الأفعال الشخصية، إلا أن هذه التفرقة بين الفعل الخاطئ والفعل غير الخاطئ للمضرور غير منصوص عليها، في التشريعات العربية فمنها ما يشترط في فعل المضرور حتى يعفى المنسوب إليه الضرر، أن يكون خاطئا كالمادة 165 ق.م.م و165 ق.م.سوري، ومنها ما يكتفي بفعل المضرور غير الخاطئ، ولكن يشترط فيه صفات القوة القاهرة كالمادة 261 ق.م.أردني و233 ق.م.كويتي[18]. وإذا كنا أمام خطأ مشترك، ففي هذه الحالة لا تكون مسؤولية المدعى عليه كاملة بل تنقص بقدر تدخل المدعي بفعله في إحداث الضرر، وقد يرى القاضي أن أحد الخطأين قد ساهم بنسبة أكبر من مساهمة الخطأ الآخر، فيحكم بتوزيع التعويض على هذا الأساس. • خطأ وعمل الغير: إذا وقع الخطأ بفعل الغير فلا يثار أي إشكال، إذ تنتفي العلاقة السببية ويكون هذا الغير هو المسؤول الوحيد عن التعويض[19]، ويقصد بالغير الشخص المتسبب في الضرر، والذي يكون أجنبيا عن المدعى عليه، بمعنى ألا يكون هذا الأخير مسؤولا عنه، ولا يعتبر من الغير الشخص الخاضع للرقابة بالنسبة لمتولي الرقابة، ولا التابع بالنسبة للمتبوع، ويعد عمل الغير أو خطأه سببا أجنبيا ،متى كان غير متوقع وغير ممكن الدفع مثله مثل القوة القاهرة. ب- آثار السبب الأجنبي: يترتب على السبب الأجنبي سواء كان قوة قاهرة أو حادثا مفاجئا أو فعل المضرور أو فعل الغير إعفاء المدعى عليه من كل مسؤولية، متى كان هو السبب الوحيد في إحداث الضرر، وأما إذا اشترك فعل المدعى عليه مع القوة القاهرة ،فتقسم المسؤولية بقدر مساهمة كل منهما، وفي حالة تزاحم فعل المدعى عليه مع فعل المضرور أو فعل الغير فيؤخذ في الحسبان جسامة كل منهما، بحيث إذا كان فعل المضرور أو الغير يستغرق فعل المدعى عليه فإن هذا الأخير يعفى من المسؤولية المترتبة عليه، وأما إذا كان على درجة واحدة فيتحمل كل منهم جزء من المسؤولية يكون بقدر مساهمته في إحداث الضرر[20]، وهذا ما أكدته المادة 126 ق.م.ج بقولها: «إذا تعدد المسؤولون عن عمل ضار كانوا متضامنين في التزامهم بتعويض الضرر وتكون المسؤولية فيما بينهم بالتساوي إلا إذا عين القاضي نصيب كل منهم في الالتزام بالتعويض». ثالثا: دور النظم التعويضية الخاصة في إضعاف فكرة الخطأ: يسعى الفرد دوما إلى إيجاد وسائل تمكنه من توفير الحماية اللازمة لحقوقه المالية وغير المالية، ومن بين تلك الوسائل التي أوجدها المسؤولية المدنية، التي ارتكزت كليا على الخطأ بحيث لا يمكن خارج الخطأ الحصول على التعويض، وقد احتلت مكانة معتبرة نظرا لتطبيق القضاء لقواعدها باستمرار، لكنها سرعان ما أثبتت عجزها عن توفير الحماية اللازمة للضحايا، إما لأن أركانها لم تتحقق أو لتمكن المسؤول بعد أن تثبت المسؤولية في جانبه، من التخلص منها بإثبات السبب الأجنبي، فضلا عن الحالة التي يكون فيها غير قادر على دفع التعويض بسبب إعساره، لذا ظهرت الحاجة لضرورة الانتقال بالتعويض عن الأضرار من المسؤولية الفردية إلى الجماعية، بحيث يجد المضرور في الكثير من الحالات ذمة جماعة، تلتزم بالتعويض إلى جانب المسؤول أو بدلا عنه[21]، وأمام تزايد عدد الضحايا الذين بقوا من دون تعويض، أوجد المشرع حلولا استثنائية[22]، فهي لا تشمل تعويض الضحايا بصفة عامة، كما هو الشأن في المسؤولية المدنية، وإنما تشمل تعويض ضحايا حوادث معينة وقعت في فترات محددة، كتعويض حوادث العمل وتعويض حوادث المرور، تعويض ضحايا المظاهرات وأعمال العنف، وتعويض ضحايا الكوارث الطبيعية. وبروز هذا النظام الجديد إلى جانب نظام المسؤولية المدنية حيث لازال بعض الفقهاء يعتبرونه مجرد صورة من المسؤولية أو نظام خاص للتعويض، وهو أيضا محل تسميات مختلفة، فالبعض يطلق عليه نظام تعويض جزافي، باعتبار أن التعويض الذي تتحصل عليه الضحية ليس تعويضا لكل الضرر الذي لحق بها، ويطلق عليه البعض الآخر تسمية التعويض التلقائي، لكون الضحية تتحصل على التعويض في كل الحالات بقوة القانون، ويطلق عليه البعض الآخر تسمية الضرر الجسماني، لكونه يقتصر على تعويض الضرر الجسماني، فقط ولكن هذه التسميات المختلفة لا تعني بتاتا أن هناك اختلاف بشان عناصر هذا النظام التعويضي، الذي يتميز كليا عن المسؤولية المدنية[23]. ومن جهة أخرى فإنه عكس نظام المسؤولية المدنية ،والتي تكون قابلة للنفي عن طريق إثبات توافر حالة من حالات السبب الأجنبي طبقا للمادة 127 ق.م.ج فإن الأمر مختلف في ظل النظام التعويضي ،إذ لا يمكن للمدين بالتعويض (الصندوق) التنصل من دفع التعويض للضحية بحجة توفر حالة من حالات السبب الأجنبي، كالقوة القاهرة أو خطأ الغير أو خطأ الضحية، والادعاء أنها هي مصدر الضرر الذي لحق الضحية أو أنه كان له دور في جسامة ذلك الضرر، وبذلك فإنه أمام تمدد وانتشار النظم التعويضية أصبحت القاعدة هي كل ضرر يكون قابلا للتعويض، ولم يعد تعويض الأضرار في الوقت الحالي قاصرا على المسؤولية الفردية، بل ظهرت إلى جانبها المسؤولية الجماعية ممثلة في التأمين والتأمينات الاجتماعية والضمان الاجتماعي، وهذا الالتزام الجماعي بالتعويض تجاه المضرور في ظل النظم التعويضية، لا يقوم بداهة على أساس الخطأ وإنما على أساس التضامن الاجتماعي، بتعويض كافة الأضرار في المجتمع[24]. إن الغرض من هذا النظام الجديد، هو تمكين الضحية من الحصول فعلا التعويض حيث أصبح البحث عن سبل جبر الضرر، الذي لحق الضحية هو الانشغال الأول للمجتمع، وتجدر الإشارة في هذا الشأن ،إلى أن المجتمع قد يقتصر دوره بحسب طبيعة الأخطار على تنظيم تضامن المعنيين ،وقد يتحمل هو نفسه عبئ التعويض. 01 – انتشار التأمين والأنظمة الجماعية للتعويض: أدى ظهور الثورة الصناعية ،وما صاحبها من استعمال الآلات والماكنات في العمل إلى إيجاد أخطار وحوادث ،قد يكون العامل ضحيتها أو قد يكون المتسبب فيها، وكنتيجة لذلك كثرت دعاوى المسؤولية المدنية من طرف الضحايا، أو من الغير من أجل تحديد مسؤولية هذه الأخطار، وعلى ذلك فكر أصحاب شركات التأمين في إيجاد أنواع مختلفة من التأمينات لأجل تغطية حوادث المسؤولية المدنية ،كالتأمين عن المسؤولية المدنية عن حوادث السيارات، وتأمين أصحاب الأعمال من الإصابات والأمراض المهنية[25]، لذا وجد التامين من الأضرار بهدف تعويض المؤمن له ،عما قد يلحقه جراء وقوع الخطر المؤمن منه، أي أنه يمتاز بالصفة التعويضية، ويختلف نطاق التعويض ومضمونه بحسب موضوع التأمين، ولا يجوز للتعويض أن يتجاوز مقدار الضرر الذي حدث بالفعل ويسعى لإصلاح الأضرار، والخسائر التي يتعرض لها المؤمن له[26]. فالمسؤولية المدنية اليوم لم تعد جزاء الإهمال وعدم التبصر وعدم الحيطة، ولكنها صارت وسيلة اجتماعية لتعويض المضرور، كلما أمكن نسب الضرر إلى شخص معين بصرف النظر عن درجة الخطأ والانحراف، حيث نجد اليوم أن هناك علاقة جد وثيقة بين المسؤولية والتأمين، خاصة بعد أن كثرت القضايا وتضخمت المشاكل القانونية كان لابد من ظهور نظام التأمين من المسؤولية، وذلك لتخفيف وطأة العبء على الشخص المعني كي يستمر على نشاطه الاجتماعي، زيادة على ذلك ضرورة تغطية العجز الذي أصبح اليوم يعاني منه نظام المسؤولية المدنية، فيما يخص القيام بالوظيفة التعويضية والذي جعل المضرورين في كثير من الحالات ،لا يجدون الطرف الذي يضمن لهم الحصول على تعويض الأضرار التي تمسهم لسبب أو لآخر[27]، وقد حل المؤمن سواء أكان صندوق الضمان الاجتماعي أو شركة التأمين، محل المدين بالتعويض تجاه الضحية، وبمقتضى هذه العلاقة الجديدة أصبحت الضحية، ليست بحاجة إلى إثبات مسؤولية الشخص المتسبب في الضرر ولا علاقة السببية، بل تستحق التعويض لمجرد تحقق الخطر محل التأمين ولا حاجة للجوء للقضاء ،طالما أن مقدار التعويض محدد قانونا أو اتفاقا خاصة وأن المدين مطالب بصفته ضامنا لا مسؤولا، فأصبح التأمين إجباريا تحت طائلة عقوبات مختلفة بما فيها العقوبات الجزائية، وأنشأت إلى جانب صناديق الضمان الاجتماعي تعاضديات بمحض إرادة المعنيين، بمختلف الأخطار الاجتماعية المحتملة قصد الاستفادة من تعويضات إضافية، علما وأن التعويض الذي يتحمله المؤمن هو تعويض جزافي أو جزئي[28]، وبذلك كان للتقدم التكنولوجي أثر بالغ في تعديل الصورة العادية أو المألوفة للتعويض وذلك من خلال تعديل وصف المسؤول عن التعويض، سواء باشتراط التأمين الإجباري من المسؤولية المدنية، أو عن طريق تدخل الدولة في التعويض أو عن طريق صناديق الضمان الاجتماعي، وبالتالي يمكن تعريف التأمين من المسؤولية المدنية بأنه :"عقد يتم بين شخص يسمى المؤمن ،وشخص آخر يسمى المؤمن له بمقتضاه يتحمل المؤمن العبء المالي المترتب عن الخطر الضار غير العمد والمحدد في العقد بسبب رجوع الغير إلى المؤمن له بالمسؤولية لقاء ما يدفعه هذا الأخير من أقساط"، وعلى هذا فإن المؤمن له يبرم عقد التأمين ،من أجل نقل تبعة مسؤوليته المدنية فإذا تحققت هذه الأخيرة فإن شركة التأمين تقوم بدفع التعويض للمضرور، بدلا من قيام المؤمن له بذلك، وتتمل صورة استفادة المضرور باستفادته من تدعيم ذمة المسؤول ،أو ضمانه العام بمبلغ التأمين بما يمكنه من الحصول على التعويض من شركة التأمين مباشرة[29]. وبذلك نخلص إلى القول بأن نظام التأمين من المسؤولية، يعد من بين أوجه الحماية القانونية التي كرستها مختلف التشريعات لأجل حماية المضرورين، وبمقتضاه أمكن للفرد أن يؤمن على أخطائه أيا كانت طبيعة هذه الأخطاء، بشرط ألا تكون أخطاء عمدية ويحقق هذا النظام للمضرور ميزة الرجوع مباشرة على المؤمن، وكلما اتسعت دائرة المسؤولية اتسع نطاق التأمين، أين يمكن للمؤمن له أن يتحصن خلف المؤمن ليدرأ عنه خطر الالتزام بالتعويض، وإذا كان التأمين من المسؤولية يتوقف على إرادة ذوي الشأن بمعنى أنه اختياريا إلا أنه في ظروف خاصة يعتبر إجباريا بنص القانون، وذلك بسب كثرة وانتشار الأضرار في ظل هذه الظروف[30].وبذلك يعد التأمين من المسؤولية الوسيلة المثلى لتعويض الشخص عما يصيب ذمته المالية من ضرر، بسبب رجوع الغير إليه بالتعويض وهو بهذا المعنى يكون نموذجا لتعاون مؤسسي يستند، إلى أسس فنية وقانونية بين فئة غير محدودة من الأفراد، لمواجهة أخطار المسؤولية المدنية، التي تهدد الذمة المالية لكل واحد منهم، ويوفر الحماية التأمينية للمؤمن له، في مواجهة الأخطار الناجمة عن انعقاد مسؤوليته، كما يوفر للمضرور تعويض عما لحقه من ضرر[31]