مفهوم ما بعد الحداثة

ادعت الحضارة الغربية أنها مركز العالم، وأنها صانعة التاريخ ورمز التحضر في كل المجالات وهذا ما جعلها تتعرض لحملة نقد قوية من طرف نقاد ما بعد الحداثة التي انتصرت للهامش وفضحت مزاعم الحضارة الغربية عن طريق إسماع صوت المهمشين في بقاع العالم.

تعريف ما بعد الحداثة

تمتد فترة ما بعد الحداثة  (Post modernism) من سنة 1970م إلى سنة 1990م، ويقصد بها النظريات والتيارات والمدارس الفلسفية والفكرية والأدبية والنقدية والفنية التي ظهرت ما بعد الحداثة البنيوية والسيميائية[1] واللسانية. وقد جاءت ما بعد الحداثة لتقويض الميتافيزيقا الغربية، وتحطيم المقولات المركزية التي هيمنت قديما وحديثا على الفكر الغربي، كاللغة، والهوية، والأصل، والصوت، والعقل... وقد استخدمت في ذلك آليات التشتيت والتشكيك والاختلاف والتغريب، وتقترن ما بعد الحداثة بفلسفة الفوضى والعدمية والتفكيك[2] واللامعنى واللانظام. وتتميز نظريات ما بعد الحداثة عن الحداثة السابقة بقوة التحرر من قيود التمركز، والانفكاك عن اللوغوس[3] والتقليد وما هو متعارف عليه، وممارسة كتابة الاختلاف والهدم والتشريح، والانفتاح على الغير عبر الحوار والتفاعل والتناص، ومحاربة لغة البنية والانغلاق والانطواء، مع فضح المؤسسات الغربية المهيمنة، وتعرية الإيديولوجيا البيضاء، والاهتمام بالمدنس والهامش والغريب والمتخيل والمختلف، والعناية بالعرق، واللون، والجنس، والأنوثة، وخطاب ما بعد الاستعمار…

جان فرونسوا ليوتار (من كبار مفكري ما بعد الحداثة)

تفكيك المصطلح

يتكون مصطلح "ما بعد الحداثة" (postmodernity) من مقطعين هما (post) "ما بعد" و (modernity) الحداثة، حيث تفيد البادئة post معنى "التجاوز تجاوز الماضي والسعي نحو المستقبل". بمعنى أن "ما بعد الحداثة" تسعى إلى تجاوز الماضي الحداثي، وأفكاره المغلوطة عن بقية شعوب العالم.

الفرق بين ما بعد الحداثة وما بعد الحداثية

حدد الباحث إيهاب حسن الفرق بين "ما بعد الحداثة" (postmodernity) و"ما بعد الحداثية" (postmodernism) بقوله: "يكفي الآن القول ببساطة أن ما أعنيه postmodernism هو الإشارة إلى المجال الثقافي، ولا سيما الأدب، الفلسفة، وسائر الفنون بما في ذلك فن العمارة. بينما يشير مصطلح postmodernity إلى المخطط الجيوسياسي الذي برز في العقود الأخيرة، ويطلق على هذا الأخير في بعض الأحيان مصطلح "ما بعد الكولونيالية". إنه يؤكد على العولمة والتمركز المحلي اللذين يقترنان بطرق منحرفة، ماحقه في أغلب الأحيان" 01[4]. فالمقطع (ism) يلحق بالمصطلح للدلالة على المذهب الفكري في علاقته بالثقافة والأدب، أما (postmodernity) فيشير إلى الجانب السياسي ويعالج علاقة السياسة بالجغرافيا وبالمد الإمبريالي.

الفرق بين الحداثة وما بعد الحداثة

الفرق بين الحداثة وما بعد الحداثة

الحداثة/الحداثية

ما بعد الحداثة/ ما بعد الحداثية

التسليم بالسرديات الكبرى في التاريخ والثقافة والهوية الوطنية كما تمت صياغتها قبل الحرب العالمية الثانية (الأساطير الأمريكية-الأوروبية عن التقدم). قبول الأساطير ذات المنشأ الثقافي والعرقي كما هي دون استجواب.

التشكيك ورفض السرديات الكبرى للتاريخ والثقافة؛ السرديات المحلية، التفكيك التهكمي للسرديات الكبرى: مناهضة اسطورة "الأصل".

الشعور بالذات الموحدة، "الفردية"، الهوية الموحدة.

الشعور بالتشظي، والذات المزاحة. والهويات المتعددة، و المتصارعة.

التوافق المفترض أن الثقافة العليا أو الرسمية هي المعيارية والموثوقة، وأساس القيمة والتمييز.

اختلاط الثقافات الشعبية والعالية، وتقييم جديد لثقافة البوب، والأشكال الثقافية الهجينة، وتحدي تصنيف الثقافة إلى "العليا" / الدنيا ".

الإيمان بـ "العمق" (عمق المعنى، والقيم، والمحتوى، والمدلول) مقابل "السطح" (المظاهر، والسطحية، والدال).

الاهتمام باللعب بالسطوح والصور والدلالات دون الاهتمام ب "العمق". الاختلافات العلائقية والأفقية والتفاضلات.

تضع ثقتها في التصنيع كوسيلة فعالة لتقدم المجتمع

تنتقد العواقب المدمرة للنموذج الصناعي الذي يظهر في الضرر البيئي الحالي

يمتاز التعليم بصلابته القائمة على بناء الفردانية

يمتاز التعليم بالمرونة، وتعزيز مبادئ العولمة والتعددية الثقافية

نقض السرديات الكبرى

فـ "ما بعد الحداثة" ترفض أي نوع من التفسير الشامل: أي النظريات التي تدعي "امتلاك الحقيقة"، فـ فرانسوا ليوتار يعرِّف ما بعد الحداثة بقوله: "باختصار شديد أعرف ما بعد الحداثة باعتبارها تشككا موجها إلى الادعاءات الكبرى" 02[5]. ويقصد بذلك التيارات الفكرية التي ادعت امتلاك الحقيقة.

كانت الماركسية إحدى الحكايات الكبرى التي سيطرت على الفكر الغربي عموما وعلى المجتمعات القومية خصوصا؛ لأنها وعدت الشعوب بتحقيق حلمهم في مدينة فاضلة تحتضن كل الفقراء والمهمشين في العالم.

يوسف القرشي - ما بعد الحداثة.

إيجابيات ما بعد الحداثة

  1. أن هذا التيار الفكري هو صوت المهمشين في العالم.

  2. تغييرها لخارطة العالم السياسي وزعزعة المركزية الغربية.

  3. فضحت قيم الحداثة الغربية التي تسلم بفكرة قدرة الذات الغربية الفاعلة على صناعة التاريخ.

  4. فضح الأنظمة الشمولية التي ادعت قدرتها على كشف الحقيقة.

النقد الموجه لما بعد الحداثة

  1. يرى بعض النقاد أن "ما بعد الحداثة" هي تجل واضح للنزعة الرأسمالية التي حولت المجتمع إلى مجتمع خاضع لمظاهر الاستهلاك والموضة، وهو مجتمع تسيطر عليه الشركات المتعددة الجنسيات التي تعتبر شكلا جديدا للاستعمار.

  2. تنكر "ما بعد الحداثة" كل قيمة تتصل بالعقل وهي بذلك تغطي كل إيجابيات الحداثة، كما أنها تبالغ في نزعتها التشكيكية.

  3. يعاب على نقاد "ما بعد الحداثة" نزعتهم التشاؤمية ومبالغتهم في السعي لتحقيق عالم تتحقق فيه قيم العدالة والمثالية.