Section outline
-
أحكام الالتزام :
تعد النظرية العامة للالتزام، النظرية الأهم على الإطلاق ضمن النظريات التي جاء بـها القانون المدني، حيث تجسدت هذه الأهمية في الكم الهائل من المواد التي خصتها بها القوانين المدنية عبر مختلف التشريعات.
ولم يحد المشرع الجزائري عن هذا التوجه، بتناوله لهذه النظرية بداية من المادة 53 وإلى غاية المادة 350 من القانون المدني، وذلك ضمن ستة أبواب كاملة من الكتاب الثاني المتعلق بالالتزامات والعقود، متطرقا بذلك إلى نشأة الالتزام والحديث عن مصادره، مرورا بتنفيذه، وتعديله، وانتقاله، وإلى غاية انتهائه وإثباته.
فإذا نشأ الالتزام صحيحا، فإنه يرتب آثارا قانونية معينة على عاتق المدين به تتعلق بتنفيذه وفي حالة الامتناع فإن القانون يتصدى للممتنع ويجبره على التنفيذ. والالتزام قد يكون بسيطا ، وقد تلحقه أوصافا خاصة تؤثر في أحكامه ، كما يمكن نقل الالتزام في جانبه السلبي أي من حيث المدين به ، وكذلك في جانبه الايجابي أي من حيث الدائن به ، وأخيرا فإن الالتزام ينقضي بعدة أسباب سواء كان بالوفاء به أو ما يقوم مقامه أو بغير الوفاء.
وسنتناول تناول أحكام الالتزام وفقا للتسلسل والترتيب الذي جاء به القانون المدني .
الفصل الأول : الأحكام العامة في آثار الالتزام
تمهيد :
مثلما سبق القول في الجزء الأول من النظرية العامة للالتزام وبمناسبة تقسيم الالتزامات ، أين تم تقسيم الالتزام من حيث التنفيذ الى التزام مدني والتزام طبيعي ، فالالتزام المدني هو الالتزام الذي توفر على عنصر المسؤولية وعنصر المديونية على حد سواء في حين أن الالتزام الطبيعي فقد عنصر المسؤولية ، وبقي فقط متمتعا بعنصر المديونية ، وأن فقدانه لعنصر المديونية جعل منه يفتقد لميزة الحماية التي يوفرها له القانون ، وتمكن الدائن من إجبار المدين على التنفيذ .
وعلى الرغم من كون الالتزام الطبيعي يميل أكثر لفكرة الواجب الأدبي إلا أنه ، لا يقطع صلته بالجانب القانوني لأن القانون يعترف به إلى حد معين ، وهو حد التنفيذ الاختياري، لأن المدين إذا قام بتنفيذ الالتزام الطبيعي تنفيذا اختياريا تم قبول هذا التنفيذ، ولا يمكن بعد ذلك الرجوع عن التنفيذ ، أو المطالبة باسترجاع ما تم تسليمه بمناسبته.
لهذه الأسباب اعتبر كثير من فقهاء القانون أن الالتزام الطبيعي التزام ناقص يقع في مرتبة وسطى ما بين الالتزام القانوني والوجب الأخلاقي أو الأدبي[1] وهو أعلى من مجرد الواجب الأخلاقي أو الأدبي وأدنى مرتبة من الواجب القانوني .
المبحث الأول : تعريف الالتزام الطبيعي وحالاته
سنحاول من خلال ما سيأتي إعطاء تعريف للالتزام وتبيان أهم حالاته.
المطلب الأول : تعريف الالتزام الطبيعي
المشرع الجزائري لم يعط تعريفا للالتزام الطبيعي واكتفى بتبيان أهم خاصية من خصائصه ضمن المادة 160 فقرة 02 وهي عدم القدرة على إجبار المدين على تنفيذه ،
حيث جاء ضمن الفقرة الثانية " ... غير أنه لا يجبر على التنفيذ إذا كان الالتزام طبيعيا ."
ومما سبق يمكن تعريف الالتزام الطبيعي أنه واجب قانوني منقوص ، لا تضمنه ذمة المدين . ولا يمكن جبر المدين على الوفاء به . غير أنه إذا تم الوفاء به اختياريا تم الوفاء فلا يعد ذلك تبرعا ولا يمنح الموفي امكانية استرداد ما تم الوفاء به ، مما يعني أن الوفاء بالالتزام الطبيعي متوقف على محض مشيئة المدين.
وفي الفقه القانوني يكتفي الفقهاء بتعريف الالتزام الطبيعي بأنه التزام يحتوى فقط على عنصر المديونية ويفتقر لعنصر المسؤولية[2]. سواء كانت هذه المسؤولية كانت متوفرة ثم زالت ، أو افتقدها منذ نشأته فنشأ معيبا منذ البداية كما هو الحال في دين فاق الحد الذي يتطلبه القانون للكتابة ولم تتم كتابته. مما يؤدي إلى عدم القدرة على اثباته بوسائل الإثبات الأخرى كما هو الشأن بالنسبة لماهو منصوص عليه في المادة 333 من القانون المدني.
المطلب الثاني : حالات الالتزام الطبيعي
تنص المادة 161من القانون المدني على ما يلي :" يقدر القاضي ، عند عدم النص ما إذا كان هناك التزام طبيعي وعلى أي حال فإنه لا يجوز أن يخالف الالتزام الطبيعي النظام العام ."وهي مادة تقابل نص المادة 200 من القانون المدني المصري.
حيث أنه ومن خلال هذا النص يتضح لنا أنه في حالة غياب النص الذي يبين إن كان هذا الالتزام التزام طبيعي أم مدني فإن الأمر موكول للقاضي الذي يفصل في ذلك من خلال إعمال سلطته التقديرية .
من بين الحالات التي ينص فيها القانون على وجود التزام طبيعي ما هو منصوص عليه من خلال نص المادة 320 من القانون المدني والتي تنص على ما يلي:
" يترتب على التقادم انقضاء الالتزام ، ولكن يتخلف في ذمة المدين التزام طبيعي ..." وهو أمر معروف بأن التقادم طريقة من طرق انقضاء الالتزام المدني ولكنها لا تمحي هذا الالتزام بصفة نهائية وتجعل منه وكأنه لم يكن بل تخلف بدلا منه التزاما طبيعيا قابل للوفاء به .
والقاضي في فصله في مسألة وجود اللتزام الطبيعي من عدمه إنما هو يفصل في مسألة واقع وقانون في نفس الوقت ، وهو لا يخضع بالنسبة للمسألة الأولى لرقابة المحكمة العليا ( محكمة النقض) ، في حين يخضع في الثانية لرقابتها. وأما عن مسألة الواقع ، فلا تخرج عن كونها تحصيل الوقائع الثابتة مما يقدم له من أوراق، وأدلة ومستندات ، وأما عن المسألة التي تدخل في إطار القانون ، فهي تتمثل في تحديد العناصر التي يتكون منها الالتزام الطبيعي، وتكييف هذه العناصر وإعطائها الوصف القانوني الصحيح ، وهنا نجد أن عمل القاضي يميل إلى التشريع إذ هو صاحب السلطة التقديرية في القول بوجود النص من عدمه [3].
الآثار المترتبة عن الالتزام الطبيعي
الالتزام الطبيعي شأنه شأن الالتزام المدني له اثار يرتبها ، وتقترب هذه الاثار بشكل واضح من اثار الالتزام المدني .
المطلب الأول : عدم القدرة على الاسترداد.
تنص المادة 162 من القانون المدني على ما يلي" لا يسترد المدين ما أداه باختياره ، بقصد تنفيذ التزام طبيعي ."
وعليه يمكن القول أن الوفاء بالالتزام الطبيعي يؤدي إلى الوفاء بالدين وعدم القدرة على الاسترداد لما تم تقديمه من قبل المدين لتبرئة ذمته تجاه الدائن ، ويصح هذا الوفاء بتحقق شرطين :
أولهما : أن يكون الكوفاء اختياريا أي بمحض مشيئة المدين ، ومن دون أي إكراه من الدائن ، مادي أو قانوني ، فإن تم الاكراه جاز الرجوع على التنفيذ واسترداد ما تم دفعه أو تقديمه.
وثانيهما : أن يكون الوفاء من المدين على دراية ووعي ، وأن يكون مدركا أنه ينفذ التزاما طبيعيا ليس مجبرا على تنفيذه ، وفي رأيي لو تم التنفيذ عن غير دراية وأن القائم بالتنفيذ كان يعتقد أن عليه تنفيذ هذا الالتزام في حين أن العكس صحيح ، فيمكن له التمسك بأحكام نظرية الغلط ، لاسترداد ما تم دفعه، أو نظرية التدليس اذا كان الدائن قد لجأ إلى حيل لإخفاء حقيقة معينة أو تغليط المدين ودفعه إلى الوفاء.
المطلب الثاني: يمكن أن يكون سببا لالتزام مدني.
ومعنى هذا الأثر أن الوعد بالوفاء بالتزام طبيعي ، هو وعد صحيح وملزم ، أي أن هذا الوعد أو الاقرار يقلب الالتزام الطبيعي إلى التزام مدني ويصح أن يكون سببا له ، وفي هذا الموضع ظهرت عدة نظريات فمنها من يقول بتجدد الالتزام وأن الالتزام قد تم احياؤه من جديد وبشروط انعقاده السابقة . ومنهم من يرى أن ما يقوم به المدين هو مجرد اعتراف بالالتزام السابق[4] .
ولكن ان الحديث عن تجدد الالتزام أو الاعترف به من دون معنى وأن الرأيين السابقين يمكن تجاوزهما ، خاصة إذا عدنا إلى نص المادة 163 والتي تنص على أنه يمكن أن يكون سببا وبالتالي الالتزام المعني بالتنفيذ ليس الالتزام الطبيعي ، ولكن الالتزام الجديد والذي يكون مصدره الارادة المنفردة كما هو الشأن في الاعتراف
أو العقد كما لو أن اتفق الدائن والمدين على تنفيذ الالتزام الطبيعي ، وهنا يمكن القول أن ما قام به المدين يعد عملا تبرعيا وأن اتفاقهما يدخل ضمن عقود التبرع.
ومن بين النتائج المترتبة عن ما سبق ما يلي:
أولا : عدم القدرة على اجبار المدين على الوفاء بالالتزام الطبيعي لعدم وجود دعوى تحميه .
ثانيا : عد القدرة على اجراء عملية المقاصة ما بين الالتزامين الطبيعي والمدني ، لأن المقاصة ليست إلا طريقا غير مباشر لإجبار المدين على الوفاء ، وهي لا تكون إلا بين التزامين متساويين في قوتهما .
ثالثا : كما لا يمكن كفالة الالتزام الطبيعي لأن الكفالة عقد تبعي فإذا تعذر اجبار المدين الأصلي على الوفاء فيه فإن الكفيل يكون من باب أولى غير ملزم به ، وهذا الرأي فيه خلاف بين مؤيد لجواز الكفالة وبين معارض لها [5].
[1] - ياسين محمد الجبوري ، الوجيز في شرح القانون المدني الأردني ، دار الثقافة للنشر والتوزيع ، الأردن ، الطبعة الثانية 20011 ص 17.
[2] - في الالتزامات القانونية قد تجتمع المسؤولية والمديونية معا ، وقد غيب المسؤولية وتبقى المديونية كما هو الشأن في حالة الالتزام الطبيعي. وقد تحضر المسؤولية وتغيب المديونية كما هو الشأن في حالة ضمان دين غير شخصي .
[3] - محمد علي عمران ، الوجيز في اثار الالتزام ، جامعة عين شمس – مصر – طبعة سنة 1984، ص6 .
[4] - حسن على الدنون ومحمد سعيد الرحو – الوجيز في النظرية العامة للالتزام ، الجزء الثاني ، أحكام الالتزام ،الطبعة الأولى ، سنة 2004، ص 16.
[5] - حسن على الدنون ومحمد سعيد الرحو – المرجع نفسه ، ص16.