المحاضرة الأولى:  التأويل بين المفهوم الأصول

 أولا: مفهوم التأويل وأنواعه                                ثانيا:  مبادئ وأصول فلسفة التأويل.

 تمهيد:

   شكل الإنسان عبر مراحل وجوده منذ النشأة الأولى، مبادئ تعكس مدى ارتباطه بالوجود وحيثياته، سواء على مستوى الفهم أو الإدراك، وقد أبدع مفاهيم وتصورات تعبر عن طريقة حياته تفكيره في كل حقبة زمنية، ومن بين هذه المفاهيم الحاملة لثقافة الإنسان الهرمينوطيقا أو فن التأويل و قبل الخوض في هذا الموضوع يجدر بنا تقديم صورة مختصرة لمفهوم لفظ التأويل أو الهرمينطيقا:

أ – مفهوم التأويل لغة:

         التأويل مصدر، على وزن  ()تفعيل() وفعله الماضي رباعي مضعَّف ( )أَوَّلَ)( تقول: أَولَ، يُؤوِّل، تأويلاً، ومادة الكلمة: ()أَول))  في استعمالاتها اللغوية تختلف إلا أن الظاهر فيها يرجع إلى معنيين:  العودة والرجوع، والتفسير والبيان.

1- المعنى الأول: العودة والرجوع: ويتعدى بعن أو إلى، ويأتي أيضا لازما، جاء في كتاب العين لصاحبه (الــخليل بن أحمد بن الفراهيدي)ت: 170 هــ(: " آل يَؤُولُ إليه، إذا رجع إليه، تقول: طَبَخْتُ النَّبيذ والدَّواءَ فآل إلى قَدْر كذا وكذا، إلى الثُّلث أو الرُّبع، أي: رجع"[1]

قال ابن فارس)ت 395 ه)  وَآلَ يَؤُولُ، أَيْ: رَجَعَ. قَالَ يَعْقُوبُ: يُقَالُ " أَوَّلَ الْحُكْمَ إِّلَى أَهْلِّهّ "، أَيْ: أَرْجَعَهُ وَرَدَّهُ إِّلَيْهِّمْ)[2]  فكلمة التأويل تدور حول العودة والرجوع

2- المعنى الثاني:  التفسير والبيان: وهذا المعنى وإن كان واردا عند أهل اللغة، إلا أن استعماله كثر عند علماء التفسير، أي تفسير القرآن الكريم. وبذلك أصبح التفسير مرادف لتأويل.

قال أبو عبيدة ) ت 209 ه) :  التأويل: التفسير[3]  ، قال أبو منصور الأزهري)ت 370 ه) وأَخبرني الْمُنْذِّرِّي عَن أَحْمد بن يحيى قَالَ : المعْنى وَالتَّفْسِّير والتأويل وَاحِّد "[4] وقد ورد التأويل: في معاجم اللغة العربية على عدة معان تركز بمجملها على التفسير والرجوع. ففي لسان العرب:"الـتأويل فهو تفعيل من أوَّل يؤوِّل تأويلا... والتأويل والمعنى والتفسير واحد... يقال أُلْتُ الشيء اؤُوله إذ جمعته وأصلحته، فكان التأويل جمع معاني ألفاظ أشكلت بلفظ واحد لا إشكال فيه...والتأويل تفسير الكلام الذي تختلف معانيه ولا يصح إلاّ ببيان غير لفظه[5]"

 وفي القاموس المحيط جاء فيه: "وأول الكلام تأويلا وتأوله، دبره وقدره وفسره[6]

 كما أن الجرجانيحدد التأويل بمعنى الترجيع فقال "التأويل في الأصل الترجيع.[7]

 فيلاحظ مما سبق أن علماء اللغة في الفكر العربي حددوا الجانب اللغوي للتأويل وبينوا أنه بمعنى التفسير أو الرجوع أو بيان المعنى أو التدبر والتقدير.

       قال أبو جعفر الطبري )ت 310هـ): وَأَمَّا مَعْنَى التَّأْوِّيلِّ فِّي كَلَامِّ الْعَرَبِّ فَإِّنَّهُ التَّفْسِّيرُ، وَالْمَرْجِّعُ وَالْمَصِّيرُ،...وَأَصْلُهُ مِّنْ آلَ الشَّيْءُ إِّلَى كَذَا، إِّذَا صَارَ إِّلَيْهِّ وَرَجَعَ يَؤُولُ أَوْلًا وَأَوَّلْتُهُ أَنَا: صَيَّرْتُهُ إِّلَيْهِّ، وَقَدْ قِّيلَ: إِّنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَأَحْسَنُ تَأْويلًا (النساء، الآية 59) أَيْ جَزَاءً، وَذَلِّكَ أَنَّ الْجَزَاءَ هُوَ الَّذِّي آلَ إِّلَيْهِّ أَمْرُ الْقَوْمِّ وَصَارَ إِّلَيْهِّ "[8]  هناك من يرجعها الى الفعل اليوناني HERMENEIN الذي يترجم عادة بالفعل يفسر، كما يشير الإسم هرمينيا HERMINEIA الى الإله المجنح هرمس[9]. ويشير الاسم هرمس* إلى" وظيفة محددة" وهي ترجمة "ما يجاوز الفهم الانساني الى شكل أو صورة يمكن للعقل الانساني من إدراكها"  و يمكن حصر معنى كلمة هرمينوطيقا من الناحية اللغوية في ثلاث معان أساسية هي التعبير، التفسير  والترجمة[10] وبذلك فهي تشير إلى فن التأويل كاستعمال تقني يعتمد على معطيات اللغة  والمنطق لتفسير وترجمة النصوص[11]

    جاء في لسان العرب لابن منظور تحت مادة التأويل: أول الكلام وتأوله دبره وقدره، وأوله، فسره والمراد بالتأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي الى ما يحتاج الى دليل لولاه ما ترك ظاهرة اللفظ.[12]

 

ب- مفهوم التأويل إصطلاحا:

      التأويل في الأصل الترجيح وفي الشرع صرف الآية عن معناها الظاهر إلى معنى يحتمله إذا كام المحتمل الذي يراه موافقا بالكتاب والسنة مثل قوله تعالى:﴿ خْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ﴾ ( سورة  يونس الآية 32)  إن أراد به اخراج الطير ممن البيضة كان تفسيرا، وإن أراد إخراج المؤمن من الكافر أو العالم من الجاهل كان تأويلا" [13] يرى الآمدي أن التأويل على حد قول الغزالي، عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي يدل عليه الظاهر.... حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر، مع منع احتماله له بدليل يعضده"[14] وقد حدد ابن رشد في كتابه "فصل المقال" بأنه إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية الى الدلالة المجازية"[15]

        إن المتتبع لهذا المصطلح في اللغتين الإنجليزية   Hermeneutics  والفرنسية  Herméneutique  يرى أن اللفظ يرجع  في أصلها من الفعل اليوناني Hermeneuein والذي يعني (يفسر)، ومن الإسم Hermeneia والذي يعني تفسير، والتي ترتبط في أصلها بالإله هرمس Hermes الذي هو رسول آلهة الأولمب والوسيط. ففي الفكر الغربي يشير الفعل hermeneueinفي اللغة الإغريقية إلى أبعاد أكثر عمومية من الإتصال اللغوي مثل التعبير وترجمة اللغة، ولذلك يمكن حصر معنى كلمة (هرمنيوطيقا) من الناحية اللغوية في الفكر الغربي في ثلاث معان أساسية هي: التعبير، التفسير، والترجمة، وفي هذه الحالات الثلاث يحمل هذا الفعل "الاتجاه إلى الفهم إدراكا ووضوحا"

فهي تعني في الأصل: (فن أو علم التأويل)، وتحيل كلمة فن إلى " الإستعمال التقني لآليات ووسائل لغوية ومنطقية وتصويرية ورمزية واستعارية بمعنى أن الفن كالآلية لاينفك غن الغائية، أي أن الهدف الذي توظف من أجله هذه الآليات هو الكشف عن حقيقة شيء ما". ويعرف بول ريكور الهيرمنيوطيقا: "بوصفها مسعى لإزالة الغموض عن الرموز، من حيث هي تعابير ذات معنى مزدوج".

 كما يعرفها جورج غادامير: ''أداة أو تقنية  الكشف عن المعنى الأصلي للنصوص"، أو بالأحرى أقدم الإتجاهات اهتماما بفن فهم النصوص، "آلية وأداة ترجمة وتفسير وشرح".

إنها عموما: "تشير إلى التفسير الذي يكشف عن شيء متوار ومستور داخل النص يعجز الفهم العادي عن بلوغه والمفسر في قراءته لنص ما يدرك بانه يشكل وسيطا يشيد جسرا للتفاهم بين عالمين، أحدهما عالم النص الغامض المبهم، وثانيهما عالمنا الذي نعيش فيه ونألفه وما يتميز به من وضوح، هذه الوساطة هي ذاتها المهمة التي يظطلع بها هرمس فهو الوسيط الذي ينقل رسائل "زيوس" إلى البشر بحيث يقيم جسرا للتفاهم بينهما، وهو "تأمل فلسفي يعمل على تفكيك كلّ العوالم الرمزيّة، وبخاصة الأساطير والرموز الدينية والأشكال الفنيّة.

     وتتنوع الترجمات العربية لكلمة هيرمنيوطيقا، فنجد من يستخدم كلمة "التأويلية" عند مثلا حسن ناظم وعلي حاكم صالح في ترجمتهما لكتاب هانز جورج غادامير "الحقيقة والمنهج الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية"، ويستخدم مصطفى ناصف "نظرية التأويل" عنوانا لكتابة مقابل Herméneutique فعنده مصطلح الهرمنيوطيقا يعني "نظريّة التأويل وممارسته"، في حين يفضل شوقي زين صيغة "فن التأويل"، ومحمد بن عياد ب"علم التـأويل"، ويستخدم طه عبد الرحمن التأويليات فيقول: "والتأويليات عبارة عن النظر في وجوه تحصيل الفهم للنصوص، ويفضل كذلك عبد المالك مرتاض أن يترجمها إلى التأويليّة، مادام العرب عرفوا هذا المفهوم وتعاملوا معه تحت مصطلح التأويل فلم يبق لنا إذن إلاّ أن نستعمل التأويليّة مقابلا للمصطلح الغربي القديم".

وهناك من يستخدم مصطلح ( علم التفسير) عند مثلا وجيه أسعد في ترجمته كتاب بول ريكور في (التفسير محاولة في فرويد)، كذلك نصر حامد أبو زيد يستخدمه بصيغة "نظريّة التفسير"، في حين يقترح (مشير باسيل عون)كلمة  (الفسّارة) في مقابل كلمة الهيرمنيوطيقا، لكنها كلها في الحقيقة ترجمات تظل في نظر العديدين غير مقنعة تماما، لذا يفضّل الأكثريّة إستعمال كلمة "الهرمنيوطيقا".

وكما يؤكد أهل الاختصاص إذن ليس أمرا هينا على أي باحث تحديد مصطلح "الهيرمينوطيقاl’herméneutique ، ولكن مهما يكن فهو ايضا  يحيل بالدرجة الأولى في الفكر العربي "إلى عملية التفسير المنهجية المطبّقة في العلوم عموما، فالهيرمنيوطيقا لا تهتم بالتأويل لنسميها "التأويلية" فحسب، ولا تهتم "بالتفسير" لنسميها علم التفسير أو الفسارة، ولا تهتم "بالفهم" لنسميها فهم الفهم أو فن الفهم، فهي تهتم بهذه الجوانب كلها وبما هو أكثر ربما الترجمة مثلا، ولذلك ومنذ القرن السابع عشر يشير عموما إلى "نظرية تفسير النص".

ولقد درج أغلب الباحثون العرب على ترجمة الكلمة الإنجليزية Hermeneutics بالهرمنيوطيقا وهي "وصف للجهود الفلسفيّة والتحليليّة التي تهتم بمشكلات الفهم التأويلي، وتقوم الهرمنيوطيقا على فلسفة التعمق خلف ما هو ظاهر من تعبيرات وعلامات ورموز للكشف عن المعاني الكامنة والجوانب غير المتعيّنة من الخبرة أو التجربة  في محاولة لفهم المجهول بالمعلوم، حيث تبدأ عملية الفهم دائما من المعلوم في تجربتنا لتنفذ إلى المجهول.

      وينطلق الكثير من الباحثين لتعريف التأويل من خلال المفهوم الشائع في فكرنا الديني والفلسفي المعاصر فهذا: نصر حامد أبو زيد يعرفها: "جهدا عقليا ذاتيا لإخضاع النص الديني لتصورات المفسّر ومفاهيمه وأفكاره"،  ولكنه قيل فيه أنه تعريف ونظرة تُغفل دور النص وما يرتبط به من تراث تفسيري وتأثيره على فكر المفسّر.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

3- أنواع التأويل

 

إنّ التّعريفات المختلفة للتّأويل كانت أشدّ تعبرًا عن إشكاليّة فهم نص الدّيني كونهّا تهتمّ بشرح الكتاب المقدّس وتحاول تبليغه إلى العامّة للنّاس، وكثرا ما كان هذا التّبليغ لصالح طبقات معيّنة في المجتمع (الكنيسة) على حساب الطّبقات الشّعبيّة المختلفة، الأمر الذي يستثني أن يكون للتّأويل مفهوما فلسفيّا يمكن من خلاله بناء أنساق فلسفية. وقد رافقت هذه النشأة تحولات كثيرة وتفرعت منها تيارات يمكن تصنيفها إلى:

1- الإتجاه الحرفي:

    يكتفي هذا النوع من التأويل بملامسة سطح الكلام ولايغوص في دلالته العميقة التي قد تكون ثانوية في النص تنتظر القارئ المقتدر الذي يخرجها من حيّز الوجود بالقوّة إلى حيّز الوجود بالفعل وقد وجد في الثقافة العربية الكثير ممن تبنوا هذا النوع من التأويل وممن أنكروا المجاز واعتبروا أن الحقيقة هي القاعدة في اللغة، وقد هدف هذا النوع من التأويل إلى الرغبة في الحد من الإنقسامات داخل المجتمع الواحد ووضع نوع من الحواجز، وليس معناه أن أصحاب هذا التصور كانوا يتقيدون بما يقولون ويلتزمون بقراءة النص قراءة حرفية فالنظرية شيء والتطبيق شيء آخر، إذن الإتجاه الحرفي يتعلق بالمعنى الحرفي ولكن قد أدى به صنيعه هذ إلى الوقوع في تناقضات مع آيات أخرى ولذلك وقعت مهاجمته واتهامهم بالإبتداع، ولعل أهم "ممثل النزعة الحرفية القصوى نجد الحنابلة والظاهريون، ابن جرير، الطبري، وإبن الحزم، رغم أنهم كانوا في بعض الأحيان كانوا مضطرين إلى إعمال بعض التأويل في بعض الآيات حتى يستقيم معناها مع ما أصّلوه من قواعد ويستقيم الإحتجاج إلى المذهب.

2-الإتجاه الرمزي أو الباطني:

      الذي لايقف على ظاهر النص ولكن يعملون التأويل فيها لأن معناها الظاهري عندهم عبثي يتناقض مع أصول المعتقدات أو مع ظواهر الطبيعة، وهو المعنى الأساسي فعندهم أيضا المعنى الحرفي يقتل معنى النص والمعنى المجازي يحييه، والتأوليون في الفكر الإسلامي شعب كثيرة منهم الشيعة وطوائفها ومنهم الخوارج أيضا بطوائفهم، ومنهم الصوفيّة والفلاسفة والمعتزلة، وكان من هؤلاء من يهدف في تأويله الآيات الدالة على التشبيه تنزيه الله (المعتزلة) أو يرمي إلى إعطاء موازنات مذهبية لمفردات قرآنية (الشيعة)، أو يتوخى استعراض تعاليم نفسانية وروحية وفلكية (المتصوفة الفلاسفة)، أو يقصد إلى تعضيد مذهب فقهي، وقد اتخذ بعضهم المصحف كله موضع تأويل رغم اختلاف مستويات خطاب آيات الأحكام والقصص والتمثيل... وانتقى آخرون ما رأوه خادما لمقاصدهم المختلفة بيد أنه يمكن الزعم أنهم جميعا استثمروا الآيات الوارد فيها التمثيل بكيفية صريحة أو ضمنية. وقد وسع هذا المفهوم بعض متطرفي المتأولة مثل إخوان الصفاء والباطنية وكثير من المتصوفة فاعتبروا كل آية من القرآن لها ظاهر وباطن، ومع ذلك فقد تبنى كثير منهم وجود معان ظاهرة متناسبة مع معان بانية ماعدا بعض غلاة الباطنية والقرامطة، والمعاني الظاهرة هي التي بنيت عليها أحكام الشريعة، وأما المعاني الباطنية فذات أسرار خفيّة، غير محدودة وغير محصورة يقول أحد متأخري الصوفية لكل آية ستون ألف فهم وما بقي من فهمها أكثر.

3-  الاتجاه التمثيل أو التوفيقي:

  الذين فرقوا بين المعنى الحرفي التاريخي وبين المعنى المجازي، فكانوا يقبلون المعنى الحرفي حينما يرجحه السياق ويطابق العقيدة ويحترم مقاصد الكاتب ويحتمل الحقيقة، ويلجؤون إلى المعنى المجازي في حالة عبثية المعنى ومخالفته للعقيدة، وصاحب هذه القراءة التأويلية هو "فيلو الإسكندري" الذي عكف على تأويل العهد القديم معتمدا على التأويلات اليهودية واليونانية، وقد سار في طريقه آخرون أشهرهم "أورجين" الذي كان متعمقا في الفلسفة اليونانية بمختلف مذاهبها واتجاهاتها كالأفلاطونية والأفلوطينية والفيثاغورية، وقد انطلق من تواز بين معنيين، المعنى الحرفي وهو العهد القديم، والمعنى الروحي وهو العهد الجديد، وقد تجاوز هذه الثنائية إلى القول أن النص يحتوي على المعنى الحرفي والتمثيلي والخلقي والغيبي، وهذا النوع يأخذ بنوع من الجدلية بين مبادرة المؤول وبين الوفاء للنص يناصر مقولة انفتاح النص وتعدد القراءات وحرية القارئ، لكنه يلزم المؤول بمراعاة استعمال اللغة واحترام النص للحد من جماح التأويل، ودفع المؤول إلى مساءلة بدل مساءلة نزوعاته الذاتيّة، ويدخل ضمن هذا التيار كثير من الأصوليين السنيين كالمالكية والشافعية والحنفيّة، فقد كانوا يؤولون ولكنهم كانوا يضعون بعض المقاييس لتأويلهم، ومنهم الشاطبي، والغزالي.

فالتأويلي في النهاية يتأكد دوره في وضع القواعد لشرح وتفسير النص، والبحث في المعاني الغامضة والخفيّة والغوص في الدلالة المجازيّة الرمزيّة، إنها تتلخص في كلمة واحدة: الفهم ولكن في الفهم توجد موضوعات كثيرة في تناولها يكون الباحث والبحث إلى الهرمنيوطيقا سائرين.

 

 

 



[1] -  الــخليل بن أحمد بن الفراهيدي البصري )ت: 170 هــ(، كتاب العين؛ ت د مهدي المخزومي، د إبراهيم السامرائي؛ الناشر: دار ومكتبة الهلال، ( 8/ 359).

[2] - أساس البلاغة ، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري، تحقيق: محمد باسل عيون السود، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت لبنان؛ ط1، 1998، (ج1/ ص 39)

[3] - مجاز القرآن ( ج1/ ص 86)

[4] - تهذيب اللغة ( ج3 / 135)

[5] - ابن منظوور، لسان العرب،ط1، دار صادر،بيروت، 11/33.

[6] - -الفيروز أبادي، مجد الدين محمد، القامويس المحيط، دار الفكر، بيروت، ط1، 1978  ص 3/331

[7]- الجرجاني، ، التعريفات،  دار الكتاب العربي، بيروت،ط1،  ص72.

[8] - تفسير الطبري / ت شاكر( ج6 /205/206)

[9]-  عادل مصطفى، مدخل إلى الهرمنيوطيقا  نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامير، دار النهضة العربية ، بيروت- لبنان، ط 2003 ، ص 17.

* هرمس أخو أثينا الأوسط ، ابن زوس من مايا، و هو رسول الآلهة (أنظر:  بيار غريمال، الميتولوجيا اليونانية ، ترجمة هنري زغيب ، منشورات عويدات ، بيروت ، ط 1، 1982، ص 50 )

[10] - عادل مصطفى ، مدخل إلى الهرمنيوطيقا  نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامير، المرجع السابق ، ص 17.

[11] - محمد شوقي الزين ، تأويلات و تفكيكات:  فصول في الفكر الغربي المعاصر ، المركز الثقافي العربي ، بيروت، لبنان،، ط 1،  2002 ، ص 29.

[12] - ابن منظور، لسان العرب، ج1، دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، لبنان، ط3، 1999، ص 264.

[13]  - الجرجاني: التعريفات، مكتبة لبنان، ،ط1، 1985 ، ص 52

[14] - علي الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، المكتب الإسلامي،ط2،  1401ه،  ص 52.

[15] - ابن رشد، فصل المقال في ما بين الحكمة و الشريعة من الاتصال، دراسة وتحقيق محمد عمارة، دار المعارف، مصر، ط2، ص 32.


المحاضرة الأولى:  التأويل بين المفهوم الأصول

 أولا: مفهوم التأويل وأنواعه                                ثانيا:  مبادئ وأصول فلسفة التأويل.

 تمهيد:

   شكل الإنسان عبر مراحل وجوده منذ النشأة الأولى، مبادئ تعكس مدى ارتباطه بالوجود وحيثياته، سواء على مستوى الفهم أو الإدراك، وقد أبدع مفاهيم وتصورات تعبر عن طريقة حياته تفكيره في كل حقبة زمنية، ومن بين هذه المفاهيم الحاملة لثقافة الإنسان الهرمينوطيقا أو فن التأويل و قبل الخوض في هذا الموضوع يجدر بنا تقديم صورة مختصرة لمفهوم لفظ التأويل أو الهرمينطيقا:

أ – مفهوم التأويل لغة:

         التأويل مصدر، على وزن  ()تفعيل() وفعله الماضي رباعي مضعَّف ( )أَوَّلَ)( تقول: أَولَ، يُؤوِّل، تأويلاً، ومادة الكلمة: ()أَول))  في استعمالاتها اللغوية تختلف إلا أن الظاهر فيها يرجع إلى معنيين:  العودة والرجوع، والتفسير والبيان.

1- المعنى الأول: العودة والرجوع: ويتعدى بعن أو إلى، ويأتي أيضا لازما، جاء في كتاب العين لصاحبه (الــخليل بن أحمد بن الفراهيدي)ت: 170 هــ(: " آل يَؤُولُ إليه، إذا رجع إليه، تقول: طَبَخْتُ النَّبيذ والدَّواءَ فآل إلى قَدْر كذا وكذا، إلى الثُّلث أو الرُّبع، أي: رجع"[1]

قال ابن فارس)ت 395 ه)  وَآلَ يَؤُولُ، أَيْ: رَجَعَ. قَالَ يَعْقُوبُ: يُقَالُ " أَوَّلَ الْحُكْمَ إِّلَى أَهْلِّهّ "، أَيْ: أَرْجَعَهُ وَرَدَّهُ إِّلَيْهِّمْ)[2]  فكلمة التأويل تدور حول العودة والرجوع

2- المعنى الثاني:  التفسير والبيان: وهذا المعنى وإن كان واردا عند أهل اللغة، إلا أن استعماله كثر عند علماء التفسير، أي تفسير القرآن الكريم. وبذلك أصبح التفسير مرادف لتأويل.

قال أبو عبيدة ) ت 209 ه) :  التأويل: التفسير[3]  ، قال أبو منصور الأزهري)ت 370 ه) وأَخبرني الْمُنْذِّرِّي عَن أَحْمد بن يحيى قَالَ : المعْنى وَالتَّفْسِّير والتأويل وَاحِّد "[4] وقد ورد التأويل: في معاجم اللغة العربية على عدة معان تركز بمجملها على التفسير والرجوع. ففي لسان العرب:"الـتأويل فهو تفعيل من أوَّل يؤوِّل تأويلا... والتأويل والمعنى والتفسير واحد... يقال أُلْتُ الشيء اؤُوله إذ جمعته وأصلحته، فكان التأويل جمع معاني ألفاظ أشكلت بلفظ واحد لا إشكال فيه...والتأويل تفسير الكلام الذي تختلف معانيه ولا يصح إلاّ ببيان غير لفظه[5]"

 وفي القاموس المحيط جاء فيه: "وأول الكلام تأويلا وتأوله، دبره وقدره وفسره[6]

 كما أن الجرجانيحدد التأويل بمعنى الترجيع فقال "التأويل في الأصل الترجيع.[7]

 فيلاحظ مما سبق أن علماء اللغة في الفكر العربي حددوا الجانب اللغوي للتأويل وبينوا أنه بمعنى التفسير أو الرجوع أو بيان المعنى أو التدبر والتقدير.

       قال أبو جعفر الطبري )ت 310هـ): وَأَمَّا مَعْنَى التَّأْوِّيلِّ فِّي كَلَامِّ الْعَرَبِّ فَإِّنَّهُ التَّفْسِّيرُ، وَالْمَرْجِّعُ وَالْمَصِّيرُ،...وَأَصْلُهُ مِّنْ آلَ الشَّيْءُ إِّلَى كَذَا، إِّذَا صَارَ إِّلَيْهِّ وَرَجَعَ يَؤُولُ أَوْلًا وَأَوَّلْتُهُ أَنَا: صَيَّرْتُهُ إِّلَيْهِّ، وَقَدْ قِّيلَ: إِّنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَأَحْسَنُ تَأْويلًا (النساء، الآية 59) أَيْ جَزَاءً، وَذَلِّكَ أَنَّ الْجَزَاءَ هُوَ الَّذِّي آلَ إِّلَيْهِّ أَمْرُ الْقَوْمِّ وَصَارَ إِّلَيْهِّ "[8]  هناك من يرجعها الى الفعل اليوناني HERMENEIN الذي يترجم عادة بالفعل يفسر، كما يشير الإسم هرمينيا HERMINEIA الى الإله المجنح هرمس[9]. ويشير الاسم هرمس* إلى" وظيفة محددة" وهي ترجمة "ما يجاوز الفهم الانساني الى شكل أو صورة يمكن للعقل الانساني من إدراكها"  و يمكن حصر معنى كلمة هرمينوطيقا من الناحية اللغوية في ثلاث معان أساسية هي التعبير، التفسير  والترجمة[10] وبذلك فهي تشير إلى فن التأويل كاستعمال تقني يعتمد على معطيات اللغة  والمنطق لتفسير وترجمة النصوص[11]

    جاء في لسان العرب لابن منظور تحت مادة التأويل: أول الكلام وتأوله دبره وقدره، وأوله، فسره والمراد بالتأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي الى ما يحتاج الى دليل لولاه ما ترك ظاهرة اللفظ.[12]

 

ب- مفهوم التأويل إصطلاحا:

      التأويل في الأصل الترجيح وفي الشرع صرف الآية عن معناها الظاهر إلى معنى يحتمله إذا كام المحتمل الذي يراه موافقا بالكتاب والسنة مثل قوله تعالى:﴿ خْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ﴾ ( سورة  يونس الآية 32)  إن أراد به اخراج الطير ممن البيضة كان تفسيرا، وإن أراد إخراج المؤمن من الكافر أو العالم من الجاهل كان تأويلا" [13] يرى الآمدي أن التأويل على حد قول الغزالي، عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي يدل عليه الظاهر.... حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر، مع منع احتماله له بدليل يعضده"[14] وقد حدد ابن رشد في كتابه "فصل المقال" بأنه إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية الى الدلالة المجازية"[15]

        إن المتتبع لهذا المصطلح في اللغتين الإنجليزية   Hermeneutics  والفرنسية  Herméneutique  يرى أن اللفظ يرجع  في أصلها من الفعل اليوناني Hermeneuein والذي يعني (يفسر)، ومن الإسم Hermeneia والذي يعني تفسير، والتي ترتبط في أصلها بالإله هرمس Hermes الذي هو رسول آلهة الأولمب والوسيط. ففي الفكر الغربي يشير الفعل hermeneueinفي اللغة الإغريقية إلى أبعاد أكثر عمومية من الإتصال اللغوي مثل التعبير وترجمة اللغة، ولذلك يمكن حصر معنى كلمة (هرمنيوطيقا) من الناحية اللغوية في الفكر الغربي في ثلاث معان أساسية هي: التعبير، التفسير، والترجمة، وفي هذه الحالات الثلاث يحمل هذا الفعل "الاتجاه إلى الفهم إدراكا ووضوحا"

فهي تعني في الأصل: (فن أو علم التأويل)، وتحيل كلمة فن إلى " الإستعمال التقني لآليات ووسائل لغوية ومنطقية وتصويرية ورمزية واستعارية بمعنى أن الفن كالآلية لاينفك غن الغائية، أي أن الهدف الذي توظف من أجله هذه الآليات هو الكشف عن حقيقة شيء ما". ويعرف بول ريكور الهيرمنيوطيقا: "بوصفها مسعى لإزالة الغموض عن الرموز، من حيث هي تعابير ذات معنى مزدوج".

 كما يعرفها جورج غادامير: ''أداة أو تقنية  الكشف عن المعنى الأصلي للنصوص"، أو بالأحرى أقدم الإتجاهات اهتماما بفن فهم النصوص، "آلية وأداة ترجمة وتفسير وشرح".

إنها عموما: "تشير إلى التفسير الذي يكشف عن شيء متوار ومستور داخل النص يعجز الفهم العادي عن بلوغه والمفسر في قراءته لنص ما يدرك بانه يشكل وسيطا يشيد جسرا للتفاهم بين عالمين، أحدهما عالم النص الغامض المبهم، وثانيهما عالمنا الذي نعيش فيه ونألفه وما يتميز به من وضوح، هذه الوساطة هي ذاتها المهمة التي يظطلع بها هرمس فهو الوسيط الذي ينقل رسائل "زيوس" إلى البشر بحيث يقيم جسرا للتفاهم بينهما، وهو "تأمل فلسفي يعمل على تفكيك كلّ العوالم الرمزيّة، وبخاصة الأساطير والرموز الدينية والأشكال الفنيّة.

     وتتنوع الترجمات العربية لكلمة هيرمنيوطيقا، فنجد من يستخدم كلمة "التأويلية" عند مثلا حسن ناظم وعلي حاكم صالح في ترجمتهما لكتاب هانز جورج غادامير "الحقيقة والمنهج الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية"، ويستخدم مصطفى ناصف "نظرية التأويل" عنوانا لكتابة مقابل Herméneutique فعنده مصطلح الهرمنيوطيقا يعني "نظريّة التأويل وممارسته"، في حين يفضل شوقي زين صيغة "فن التأويل"، ومحمد بن عياد ب"علم التـأويل"، ويستخدم طه عبد الرحمن التأويليات فيقول: "والتأويليات عبارة عن النظر في وجوه تحصيل الفهم للنصوص، ويفضل كذلك عبد المالك مرتاض أن يترجمها إلى التأويليّة، مادام العرب عرفوا هذا المفهوم وتعاملوا معه تحت مصطلح التأويل فلم يبق لنا إذن إلاّ أن نستعمل التأويليّة مقابلا للمصطلح الغربي القديم".

وهناك من يستخدم مصطلح ( علم التفسير) عند مثلا وجيه أسعد في ترجمته كتاب بول ريكور في (التفسير محاولة في فرويد)، كذلك نصر حامد أبو زيد يستخدمه بصيغة "نظريّة التفسير"، في حين يقترح (مشير باسيل عون)كلمة  (الفسّارة) في مقابل كلمة الهيرمنيوطيقا، لكنها كلها في الحقيقة ترجمات تظل في نظر العديدين غير مقنعة تماما، لذا يفضّل الأكثريّة إستعمال كلمة "الهرمنيوطيقا".

وكما يؤكد أهل الاختصاص إذن ليس أمرا هينا على أي باحث تحديد مصطلح "الهيرمينوطيقاl’herméneutique ، ولكن مهما يكن فهو ايضا  يحيل بالدرجة الأولى في الفكر العربي "إلى عملية التفسير المنهجية المطبّقة في العلوم عموما، فالهيرمنيوطيقا لا تهتم بالتأويل لنسميها "التأويلية" فحسب، ولا تهتم "بالتفسير" لنسميها علم التفسير أو الفسارة، ولا تهتم "بالفهم" لنسميها فهم الفهم أو فن الفهم، فهي تهتم بهذه الجوانب كلها وبما هو أكثر ربما الترجمة مثلا، ولذلك ومنذ القرن السابع عشر يشير عموما إلى "نظرية تفسير النص".

ولقد درج أغلب الباحثون العرب على ترجمة الكلمة الإنجليزية Hermeneutics بالهرمنيوطيقا وهي "وصف للجهود الفلسفيّة والتحليليّة التي تهتم بمشكلات الفهم التأويلي، وتقوم الهرمنيوطيقا على فلسفة التعمق خلف ما هو ظاهر من تعبيرات وعلامات ورموز للكشف عن المعاني الكامنة والجوانب غير المتعيّنة من الخبرة أو التجربة  في محاولة لفهم المجهول بالمعلوم، حيث تبدأ عملية الفهم دائما من المعلوم في تجربتنا لتنفذ إلى المجهول.

      وينطلق الكثير من الباحثين لتعريف التأويل من خلال المفهوم الشائع في فكرنا الديني والفلسفي المعاصر فهذا: نصر حامد أبو زيد يعرفها: "جهدا عقليا ذاتيا لإخضاع النص الديني لتصورات المفسّر ومفاهيمه وأفكاره"،  ولكنه قيل فيه أنه تعريف ونظرة تُغفل دور النص وما يرتبط به من تراث تفسيري وتأثيره على فكر المفسّر.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

3- أنواع التأويل

 

إنّ التّعريفات المختلفة للتّأويل كانت أشدّ تعبرًا عن إشكاليّة فهم نص الدّيني كونهّا تهتمّ بشرح الكتاب المقدّس وتحاول تبليغه إلى العامّة للنّاس، وكثرا ما كان هذا التّبليغ لصالح طبقات معيّنة في المجتمع (الكنيسة) على حساب الطّبقات الشّعبيّة المختلفة، الأمر الذي يستثني أن يكون للتّأويل مفهوما فلسفيّا يمكن من خلاله بناء أنساق فلسفية. وقد رافقت هذه النشأة تحولات كثيرة وتفرعت منها تيارات يمكن تصنيفها إلى:

1- الإتجاه الحرفي:

    يكتفي هذا النوع من التأويل بملامسة سطح الكلام ولايغوص في دلالته العميقة التي قد تكون ثانوية في النص تنتظر القارئ المقتدر الذي يخرجها من حيّز الوجود بالقوّة إلى حيّز الوجود بالفعل وقد وجد في الثقافة العربية الكثير ممن تبنوا هذا النوع من التأويل وممن أنكروا المجاز واعتبروا أن الحقيقة هي القاعدة في اللغة، وقد هدف هذا النوع من التأويل إلى الرغبة في الحد من الإنقسامات داخل المجتمع الواحد ووضع نوع من الحواجز، وليس معناه أن أصحاب هذا التصور كانوا يتقيدون بما يقولون ويلتزمون بقراءة النص قراءة حرفية فالنظرية شيء والتطبيق شيء آخر، إذن الإتجاه الحرفي يتعلق بالمعنى الحرفي ولكن قد أدى به صنيعه هذ إلى الوقوع في تناقضات مع آيات أخرى ولذلك وقعت مهاجمته واتهامهم بالإبتداع، ولعل أهم "ممثل النزعة الحرفية القصوى نجد الحنابلة والظاهريون، ابن جرير، الطبري، وإبن الحزم، رغم أنهم كانوا في بعض الأحيان كانوا مضطرين إلى إعمال بعض التأويل في بعض الآيات حتى يستقيم معناها مع ما أصّلوه من قواعد ويستقيم الإحتجاج إلى المذهب.

2-الإتجاه الرمزي أو الباطني:

      الذي لايقف على ظاهر النص ولكن يعملون التأويل فيها لأن معناها الظاهري عندهم عبثي يتناقض مع أصول المعتقدات أو مع ظواهر الطبيعة، وهو المعنى الأساسي فعندهم أيضا المعنى الحرفي يقتل معنى النص والمعنى المجازي يحييه، والتأوليون في الفكر الإسلامي شعب كثيرة منهم الشيعة وطوائفها ومنهم الخوارج أيضا بطوائفهم، ومنهم الصوفيّة والفلاسفة والمعتزلة، وكان من هؤلاء من يهدف في تأويله الآيات الدالة على التشبيه تنزيه الله (المعتزلة) أو يرمي إلى إعطاء موازنات مذهبية لمفردات قرآنية (الشيعة)، أو يتوخى استعراض تعاليم نفسانية وروحية وفلكية (المتصوفة الفلاسفة)، أو يقصد إلى تعضيد مذهب فقهي، وقد اتخذ بعضهم المصحف كله موضع تأويل رغم اختلاف مستويات خطاب آيات الأحكام والقصص والتمثيل... وانتقى آخرون ما رأوه خادما لمقاصدهم المختلفة بيد أنه يمكن الزعم أنهم جميعا استثمروا الآيات الوارد فيها التمثيل بكيفية صريحة أو ضمنية. وقد وسع هذا المفهوم بعض متطرفي المتأولة مثل إخوان الصفاء والباطنية وكثير من المتصوفة فاعتبروا كل آية من القرآن لها ظاهر وباطن، ومع ذلك فقد تبنى كثير منهم وجود معان ظاهرة متناسبة مع معان بانية ماعدا بعض غلاة الباطنية والقرامطة، والمعاني الظاهرة هي التي بنيت عليها أحكام الشريعة، وأما المعاني الباطنية فذات أسرار خفيّة، غير محدودة وغير محصورة يقول أحد متأخري الصوفية لكل آية ستون ألف فهم وما بقي من فهمها أكثر.

3-  الاتجاه التمثيل أو التوفيقي:

  الذين فرقوا بين المعنى الحرفي التاريخي وبين المعنى المجازي، فكانوا يقبلون المعنى الحرفي حينما يرجحه السياق ويطابق العقيدة ويحترم مقاصد الكاتب ويحتمل الحقيقة، ويلجؤون إلى المعنى المجازي في حالة عبثية المعنى ومخالفته للعقيدة، وصاحب هذه القراءة التأويلية هو "فيلو الإسكندري" الذي عكف على تأويل العهد القديم معتمدا على التأويلات اليهودية واليونانية، وقد سار في طريقه آخرون أشهرهم "أورجين" الذي كان متعمقا في الفلسفة اليونانية بمختلف مذاهبها واتجاهاتها كالأفلاطونية والأفلوطينية والفيثاغورية، وقد انطلق من تواز بين معنيين، المعنى الحرفي وهو العهد القديم، والمعنى الروحي وهو العهد الجديد، وقد تجاوز هذه الثنائية إلى القول أن النص يحتوي على المعنى الحرفي والتمثيلي والخلقي والغيبي، وهذا النوع يأخذ بنوع من الجدلية بين مبادرة المؤول وبين الوفاء للنص يناصر مقولة انفتاح النص وتعدد القراءات وحرية القارئ، لكنه يلزم المؤول بمراعاة استعمال اللغة واحترام النص للحد من جماح التأويل، ودفع المؤول إلى مساءلة بدل مساءلة نزوعاته الذاتيّة، ويدخل ضمن هذا التيار كثير من الأصوليين السنيين كالمالكية والشافعية والحنفيّة، فقد كانوا يؤولون ولكنهم كانوا يضعون بعض المقاييس لتأويلهم، ومنهم الشاطبي، والغزالي.

فالتأويلي في النهاية يتأكد دوره في وضع القواعد لشرح وتفسير النص، والبحث في المعاني الغامضة والخفيّة والغوص في الدلالة المجازيّة الرمزيّة، إنها تتلخص في كلمة واحدة: الفهم ولكن في الفهم توجد موضوعات كثيرة في تناولها يكون الباحث والبحث إلى الهرمنيوطيقا سائرين.

 

 

 



[1] -  الــخليل بن أحمد بن الفراهيدي البصري )ت: 170 هــ(، كتاب العين؛ ت د مهدي المخزومي، د إبراهيم السامرائي؛ الناشر: دار ومكتبة الهلال، ( 8/ 359).

[2] - أساس البلاغة ، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري، تحقيق: محمد باسل عيون السود، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت لبنان؛ ط1، 1998، (ج1/ ص 39)

[3] - مجاز القرآن ( ج1/ ص 86)

[4] - تهذيب اللغة ( ج3 / 135)

[5] - ابن منظوور، لسان العرب،ط1، دار صادر،بيروت، 11/33.

[6] - -الفيروز أبادي، مجد الدين محمد، القامويس المحيط، دار الفكر، بيروت، ط1، 1978  ص 3/331

[7]- الجرجاني، ، التعريفات،  دار الكتاب العربي، بيروت،ط1،  ص72.

[8] - تفسير الطبري / ت شاكر( ج6 /205/206)

[9]-  عادل مصطفى، مدخل إلى الهرمنيوطيقا  نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامير، دار النهضة العربية ، بيروت- لبنان، ط 2003 ، ص 17.

* هرمس أخو أثينا الأوسط ، ابن زوس من مايا، و هو رسول الآلهة (أنظر:  بيار غريمال، الميتولوجيا اليونانية ، ترجمة هنري زغيب ، منشورات عويدات ، بيروت ، ط 1، 1982، ص 50 )

[10] - عادل مصطفى ، مدخل إلى الهرمنيوطيقا  نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامير، المرجع السابق ، ص 17.

[11] - محمد شوقي الزين ، تأويلات و تفكيكات:  فصول في الفكر الغربي المعاصر ، المركز الثقافي العربي ، بيروت، لبنان،، ط 1،  2002 ، ص 29.

[12] - ابن منظور، لسان العرب، ج1، دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، لبنان، ط3، 1999، ص 264.

[13]  - الجرجاني: التعريفات، مكتبة لبنان، ،ط1، 1985 ، ص 52

[14] - علي الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، المكتب الإسلامي،ط2،  1401ه،  ص 52.

[15] - ابن رشد، فصل المقال في ما بين الحكمة و الشريعة من الاتصال، دراسة وتحقيق محمد عمارة، دار المعارف، مصر، ط2، ص 32.