نحاول من خلال هذه المحاضرة توضيح المناخ الفكري السائد عند كل من سان سيمون واوغست كونت وعلاقته بظهور علم الاجتماع كعلم مستقل بذاته ,فلقد كان سان سيمون معجبا بنظام العصور الوسطى المتماسك الملتف حول عقيدة مشتركة هي الكاثوليكية ,شانه في ذلك شان بونال فانه كان واعيا باستحالة ارجاع عجلة التاريخ الى الوراء ,ومن ثم باستحالة احياء هذا النظام القديم .والمهمة التي راها جديرة بان ياخذها المفكرون من امثاله على عاتقهم ,تتمثل في تطوير اساس جديد لوحدة المجتمع الجديد وتماسكه يتمثل اساسا في خلق وحدة جديدة في مجال الفكر والمباديء العقلية .فالمجتمع الجديد لن تتحقق وحدته وتماسكه بدون هذه الوحدة الفكرية والعقلية التي عليها ان تلعب نفس الدرو الذي لعبته الوحدة الدينية والكنسية في العصور الوسطى .

كان سان سيمون مقتنعا بان المعرفة الاساسية قد تطورت في مراحل ثلاث هي المرحلة اللاهوتية ,والمرحلة الميتافيزيقية ,واخيرا المرحلة الوضعية العلمية ,كما امن ايضا بضرورة دراسة السلوك الانساني وهو الميدان الذي اطلق عليه الفيسيولوجيا الاجتماعية وتطلع الى ان يصبح هذا الميدان الجديد علما وضعيا يضاهي العلوم الفيزيائية الاخرى وحينئذ سوف تحل المعرفة العلمية بالانسان محل المعتقدات الدينية ,وسوف تتشكل الصفوة الجديدة في المجتمع الجديد من العلماء ورجال الصناعة ,لتحل محل صفوة العصور الوسطى من رجال الدين والنبلاء.لقد كان سان سيمون معجبا ايضا بصفوة المجتمع القديم من رجال اادين والنبلاء .وهي الصفوة التي التي نجحت بثقافتها اللاهوتية بالطبع ونظرتها الشاملة الكون ,في تحقيق وحدة المجتمع القديم وتماسكه ,وامن بان النظام الصناعي الجديد في امس الحاجة الى مثل هذه الصفوة لكنها ينبغي ان تكون صفوة من نوع جديد ,صفوة علمية وصناعية ,فالعلم في النظام الجديد عليه ان يؤدي وظيفة الدين في النظام القديم ,وذلك من خلال المذهب الوضعي الذي يعني عنده تطبيق المباديء العلمية على جميع الظواهر الطبيعية والانسانية وفهمها في ضوء هذه المباديء .

ويظل القادة الروحيون وهم رجال العلم في المجتمع الجديد,والقادة العلمانيون وهم رجال الصناعة ,يتمتعون بأهمية خاصة عند سان سيمون في مجتمع المستقبل ومجتمع المستقبل الصناعي عند سان سيمون ,هو مجتمع شمولي تسلطي تحكمه الصفوة العلمية والصناعية بالاشتراك مع اصحاب الملكيات المنتجة ,وقد ظهرت رؤيته هذه للمجتمع في اعماله المختلفة ,ففي مؤلفه الموسوم رسائل من مقيم من جنيف يحلل المجتمع القديم الى طبقات ثلاث ,المثقفون,والملاك ,وغير الملاك ,وحيث يحتدم الصراع بين الذين يملكون والذين لا يملكون يأتي المثقفون ليقودوا طبقة الاغلبية وهي التي لا تملك ,وتحدث الثورة ذلك لان الملاك يعجزون عن احتواء هذه الحركة او السيطرة على الذين لا يملكون لفترة طويلة ,اما سبب ذلك فيتمثل في ان الصفوة القديمة المثقفة المكونة من النبلاء ورجال الدين ,والذين كانت تستند ثقافتهم الى خلفية فكرية دينية ولاهوتية ,تفقد تفوقها الثقافي وتصبح غير قادرة على منافسة المثقفين الثوررين العقلانيين الصاعدين الذين ينجحوا في قيادة الطبقة المعدمة في طريق الثورة وفي هدم المجتمع القديم كله .ان الصفو الجديدة عنده اذن المؤهلة للحكم هي العلماء ورجال الصناعة فهم في نظره القادة الطبيعيون ,وهو وان كان قد ادرك الصراع الطبقي بين من يملكون ومن لايملكون ,بين الاغنياء والفقراء ,الا ان حل هذا الصراع يكمن في الوحدة الاخلاقية التي يمكن تحقيقها من خلال تنمية مجتمع عضوي حقيقي ,مجتمع مترابط ترابطا عضويا تشعر فيه كل فئة بالحاجة الى فئات اخرى ,ومن ثم يحل التضامن والتعاون محل الصراع والتنافس .ونستطيع ان نقول ان سان سيمون قد بدأراديكاليا حينما حلل العملية الجدلية التي بمقتضاها تحول المجتمع القديم ووصل الى نهايته من خلال صراعه مع القوى الاجتماعية والاقتصادية الصاعدة ,الى ان النزعة الرومانسية والمحافظة قد طبعت تماما تصوره للمجتمع العضوي الجديد المستقر الذي تنتفي منه عناصر الصراع ومن ثم احتمالات الثورة .وسوف تتضح العناصر الفكرية المختلفة في مذهب سان سيمون من خلال عرضنا للموقف الفكري لاوغست كونت الذي اخذعن استاذه معظم افكاره وطور من خلالها فلسفته الوضعية الايجابية وعلمه الجديد.

انشأ كونت علم الاجتماع لهدف اساس تمثل في اصلاح المجتمع الذي هزته الثورة الفرنسية المترتبة على التطورات الاجتماعية والفكرية وبخاصة الفلسفات النقدية ,اذا اعتقد ان الاتجاهات النقدية للتنوير اتجاهات هدامة لا تقوى على البناء ,وامن بأن التفكير الوضعي في مشاكل المجتمع (المتمثل في علم الاجتماع)هو وحده القادر على اعادة تنظيم المجتمع بواسطة السياسة الوضعية .ويتضح ذلك ان علم الاجتماع الكونتي ,علم اصلاحي معاد للاتجاهات الثورية السائدة في عصره ,ومن ثم فهو ذو طابع محافظ وقد رأينا كيف ان كونط وضع حلا للتناقض الذي وقع فيه ,بين ايمانه بالتقدم وايمانه في الوقت ذاته بكمال العصور الوسطى قد حاول الخروج بمذهب توفيقي ,هو علم الاجتماع الوضعي ليعيد بواسطته تنظيم المجتمع الجديد على اساس الالتفاف حول مجموعة من القيم والمعايير الانسانية المشابهة للقيم الكنسية الكاثوليكية التي حققت الاستقرار المجتمعي ونظامه في العصور الوسطى.وتصبح المهمة الاساسية لعلم الاجتماع عنده هي الدفاع عن النظام الوضعي الجديد الذي يعكس مظاهر التقدم من ناحية ,ووحدة العصور الوسطى وتماسكها الاخلاقي من خلال الفلسفة الوضعية والسياسة الوضعية من ناحية اخرى .

ويتشكل المجتمع عند كونت من اسر وطبقات تتدرج في اطارها هذه الاسر ,وتقوم هذه الطبقات على اساس الادوار المختلفة التي يقوم بها الافراد وفقا لظاهرة التخصص وتقسيم العمل ,وهي لذلك ظاهرة طبيعية ,كاساس للتضامن الاجتماعي ,وقد رأى كونت ان الاخلاق والتربية الوضعية والمحبة الانسانية المطلقة ,هي وسائل القضاء على الصراع الطبقي وصيانة الاستقرار الاجتماعي ولكن كيف يمكن تحقيق الانسجام بين طبقات متعارضة مصالحها تماما ؟هذا هو السؤال الذي لم يقدم عنه كونت اجابة مقنعة للاتجاهات الفكرية المعارضة وقد اتضح عجز كونت عن تفسيره لظاهرة التغير الاجتماعي ويرجع ذلك الى موقفه الفكري الذي امن به ,والذي تمثل في ان التغير هو وسيلة لتحقيق هدف نهائي هو الاستقرار والنظام ,من ناحية ,وايمانه بأن العامل العقلي هو العامل الحاسم ضمن مجموعة من العوامل ,يؤدي تطورها وتضامنها في ان واحد,الى تقدم الانسانية ,فالتطور العقلي اذن هو المحور الذي تنتظم حوله مختلف الظواهر الاجتماعية الاخرى ,والجدير بالذكر انه بهذا التفسير الذهني للتطور الاجتماعي قد وضع العربة امام الحصان ,على حد التعبير الشائع بل انه قد اوقع نفسه في مأزق حينما عجز عن تفسير التطور العقلي ذاته والعوامل المؤدية اليه (الملل-السأم-الخوف من الموت)ويتضح من ذلك كله ان الخلفية الايديولوجية لكونت خلفية محافظة ,شمولية ,معادبة للاتجاهات الثورية والنقدية في عصره اذ بذل جهده الاساسي من خلال مذهبه الوضعي في الفلسفة والسياسة لتثبيت دعائم النظام في مواجهة النقد الموجه له حتى انه حاول التوفيق بين انصار الكاثوليكية وانصار المذهب الوضعي املا ان يكون منهم جهة واحدة ضد العناصر العناصر الثورية في عصره 


يهدف هذا المقياس إلى تعريف طلبة سنة أولى جذع مشترك بماهية علم النفس ، وماهي أهم مواضيعه وفروعه،  كما يهدف أيضا إلى تحديد أهداف علم النفس وكذا مناهجه،  والتعرف على المدارس التي ساهمت في تطوره,