Section outline
-
أولا: الدولة كوحدة جغرافية سياسية:
تعتبر الدولة موضوع الجغرافيا السياسية الأول والأساسي، باعتبارها الوحدة الأساسية في النمط السياسي العالمي، والواقع أنّ كل دولة هي مظهر قائم بذاته، غير متكرر في أي صورة من صور الدول الأخرى، ومظهر متفرد بكل وحدة سياسية؛ لأنّ لكل دولة مظاهرها المتفردة غير المتكررة في الموضوعات التالية:
01-الموقع وعلاقات المكان التي تميّز كل دولة عن غيرها بظروف وعلاقات مختلفة.
02-المظاهر الطبيعية لأرض كل دولة متغايرة عن غيرها.
03-اختلاف المساحة المسكونة والمستغلة داخل كل دولة تترتب عليه نتائج خاصة في كل دولة.
04-اختلاف علاقات كل دولة بالوحدات السياسية الأخرى على المستوى الإقليمي والعالمي، وهذا التفرد الوظيفي لكل دولة على حدة، لا يلغ حقيقة أنّ كافة الدول يجب أن تمتلك خمسة عناصر أساسية لقيامها واستمرارها، وهذه العناصر هي:
- مساحة من الأرض تحدها حدود متعارف عليها أو حتى متنازع عليها.
-نظام حكم إداري كفء لضمان سيادة الدولة على سطحها الأرضي والمائي والجوي.
- شعب مقيم بصفة دائمة، بغض النظر عن الهجرة من أو إلى الدولة.
-بناء اقتصادي أيٍّا كان شكله.
-نظام من النقل وخطوط للحركة داخل أراضي الدولة.
تختلف الدول فيما بينها اختلافًا كبيرا في درجة امتلاكها لعنصر أو أكثر من العناصر الخمسة السابقة، فهناك دول ذات مساحات عملاقة على رأسها روسيا، ودول ذات أعداد سكانية هائلة على رأسها الصين، ودول ذات موارد قوية ومتعددة كالولايات المتحدة، ودول ذات بناء اقتصادي متكامل مثل ألمانيا، وأخرى تعتمد على نوع فقط من مصادر الثروة مثل الجزائر، ودول ذات شبكة نقل كثيفة، وأخرى تفتقر إلى خطوط الحركة الأساسية على غرار أغلب الدول الافريقية، وتمثل الإطلالة على البحر جزء من اهتمامات الدول في تعظيم قوتها، فالكثير من دول العالم كانت تتصارع وتحارب من أجل الحصول على واجهة بحرية حتى ولو كانت ضيقة مثل بولندا (1918-1939م) أو الأردن في منتصف القرن العشرين، فالواجهة البحرية هي امتياز يعطي استثمارا مستمرا لاقتصاديات الدولة، خاصة في تقليل نفقات النقل، أو تجنب الحصار البري، أو الارتهان لإرادة دولة ساحلية، ويلاحظ أنّ الواجهة البحرية كانت غالبًا نقطة الانطلاق للدول الاستعمارية في اتجاهات معينة، ومثال ذلك واجهة فرنسا البحرية على البحر الأبيض المتوسط أدت إلى انطلاقها باتجاه شمال أفريقيا، واهتماماتها المتزايدة بقناة السويس وحوض البحر الأبيض المتوسط عامة، لكن الواجهات البحرية تختلف اختلافًا كبيرا في قيمة كل منها، فهناك واجهات بحرية ميتة أو شبه ميتة مثل سواحل روسيا أو كندا أو ألاسكا على المحيط الشمالي، وذلك بالمقارنة بواجهات بحرية ضيقة لهذه الدول على بحار مفتوحة الحركة: البلطيق والأسود وبحر اليابان بالنسبة لروسيا، أو مصب سانت لورنس وقناة هدسن، موهوك وساحل كولومبيا البريطانية بالنسبة لكندا.
ترتبط قوة الدولة أيضا بموقعها، حيث إنّ من أهم ّما يحتويه موقع الدولة هو علاقات الدول المكانية المتجاورة عبر خطوط الحدود، والحدود تثير دائماً مشكلات الدفاع والهجوم والمراكز الاستراتيجية والعلاقات الاقتصادية بين الجيران، ومن ثمّ فإنّ الحدود دائمة التغيير مع نمو سيادة الدولة أو ضياعها، وخير مثال لذلك هو دولة بولندا؛ التي تغيرت حدودها كثيراً خلال القرون الماضية والقرن الحالي، وكذلك حدود فرنسا وألمانيا المشتركة، وحدود دول البلقان، كما أنّ لمساحة الدولة ميزة استراتيجية خاصة وميزات اقتصادية عامة؛ فالدولة ذات المساحة الكبيرة تتصف بميزات عسكرية تجعل غزوها واحتلاها صعبًا للغاية، ومثال ذلك الصين التي حاربت العسكرية اليابانية خلال الثلاثينيات، وبقيت مستقلة بفعل عوامل تتقدمها مساحتها الكبيرة، وأيضا صمود روسيا القيصرية ثم الاتحاد السوفيتي بالمساحة الكبيرة أمام غزو نابليون سنة 1812م، ثم هتلر سنة 1941، كذلك تتميز المساحة الكبيرة بإمكانيات تجنب الضغط السكاني وتوزعه على أقاليم متعددة، إذا ما كانت الظروف الإنتاجية تسمح بذلك مثل الولايات المتحدة وأستراليا، وهو ما لا يتوفر لدول مثل الجزائر ومصر، أين يتركز التعداد الأكبر من السكان في مساحات ضيقة من إقليم الدولة.
إن من مميزات المساحة الكبيرة إمكانية حيازة موارد زراعية أو رعوية، أو مصادر للثروة الزراعية، مما يشجع على نمو النظام الاقتصادي وقوته، وفي مقابل هذه المميزات فإن الحجم الكبير قد يكون بمثابة عبء على الإشراف المباشر والكامل لسيادة الدولة على أجزائها الواسعة، ويتطلب ذلك بذل نفقات أكبر في الدفاع ورعاية احتياجات شعبها، وتأمين خطوط اتصال سريعة وفعّالة، وفي جانب آخر فإنّ الدولة تتجه إلى النمو مع مرور الوقت، وهذا النمو سواء كان سلميٍّا أو حربيٍّا يعتمد على الوصول إلى هدفين، تصل إليهما مستقلين أو معًا:
- أرض حرة خالية أو قليلة السكان قادرة على استيعاب هجرة السكان الزائدين؛
- طرق تجارة أو مصادر جوهرية لتدعيم المصادر الوطنية.
يقترن تحقيق هذين الهدفين بآلية التوسع، التي مكّنت من انشاء امبراطوريات عبر التاريخ، وتحديد الوضع الحالي للدول، الذي تتفاوت فيه تل الدول في المساحة، ونظرا لتراجع خيار استخدام القوة المسلحة والتوسع العسكري والاستعماري، فإنّ هناك تثبيتا للحدود، وتصديقا على ذلك بمقررات المعاهدات الدولية والقانون الدولي، ومضمون السيادة والدفاع الشرعي عن الحدود والاستقلال الوطني والوحدة الترابية للدول.
ثانيا: قياس قوة الدول
ارتبط قياس قوة الدول بنظرية توازن القوى، حيث التراجع عن اكتساب المزيد من القوة، قد يخرج الدولة من التنافس الدولي، وينزل بها إلى مكانة أقل، ومن ثمّ ينخفض موقعها تبعا لدرجة انخفاض القوة وتراجع حجمها، ويتم احتساب قوة الدولة من خلال مدى توافر عناصر القوة الشاملة، وهناك إسهامات عدة في مجال قياس قوة الدولة، ويمكن تحديدها في ثلاثة اتجاهات:
01-منهج قياس قوة الدولة من منظور العوامل المادية:
يركز هذا المنهج على العوامل التي يمكن قياسها مباشرة، ويعتمد على قياس القدرة العسكرية والاقتصادية للدولة، ومن رواد هذا المنهج جورج مودلسكي، الذي حدّد عددا من المؤشرات لتلك القوة؛ وهي: النفقات العسكرية، وحجم القوات المسلحة، والدخل القومي، والسكان، مع افتراض أنّ الدول لها القدرة والسيطرة على ثرواتها.
ضمن هذا الاتجاه؛ هناك اسهام نورمان ألكوك Norman Alcock وآلان نيوكمب Alan Newcomb الذين حددا مؤشرات قوة الدولة في إجمالي الدخل الوطني والنفقات العسكرية، في حين حدّد غونار سجوستدت Gunnar Sjöstedt عنصرين لقوة الدولة هما إجمالي الإنتاج المحلي، واستهلاك الطاقة.
يضع محمد السيد سليم قوة الدولة في ثلاثة أبعاد؛ هي: مؤشرات امتلاك الموارد الاقتصادية، ومؤشرات القدرة على استعمال تلك الموارد، ومؤشرات القدرة العسكرية، وهذا القياس يتم بالمقارنة بالدول التي تدخل مع الدول الخاضعة للقياس في تفاعل.
يمكن الإشارة إلى جملة من الانتقادات لهذا المنهج، تتمثل فيما يلي:
- إنّ الدول لا تمتلك دائما القدرة على استخدام مواردها، فهناك فارق بين الملكية القانونية لمورد، والسيطرة الفعلية عليه؛
-لا يحدد هذا المنهج أنواع الثروات التي يمكن تعميمها في مقياس عام للقوة، كما أنّ هناك بعض الموارد يصعب قياسها؛
- يتجاهل هذا المنهج التعامل مع ظاهرة العمل الجماعي في العلاقات الدولية والتحالفات بين الدول، وقدرة الدولة على استثمار وتوظيف موارد حلفائها.
02-منهج قياس الدولة من خلال الجمع بين العوامل المادية والمعنوية:
يشير هذا المنهج إلى أنّ قوة الدولة هي نتاج لمجموعتين من العوامل المادية والمعنوية، ويوجد في إطار هذا المنهج اتجاهان:
- اتجاه يهتم بكيفية دمج العناصر المادية والمعنوية معا في معادلة شاملة؛
- اتجاه يفصل بين العناصر المادية والعناصر المعنوية، عبر تثمين كل عناصر على حدى، مشيرا إلى أهمية العناصر كل من جهته.
ضمن هذا الاتجاه؛ هناك محاولة دافيد ويلكنسون David Wilkinson الذي حدّد ثلاثة أبعاد رئيسية لقياس قوة الدولة والتعرف عليها، وهي الأساس الجيوديمغرافي من حيث الموقع والسكان والموارد، والأساس الذي يشمل الوسائل السياسية والاقتصادية والعسكرية، والأساس المتضمن القدرة على العمل الجماعي اجتماعيا وأخلاقيا ومعنويا وسياسيا، كما أنّ هناك محاولة روبرت وندزل الذي حدد ثمانية عناصر أساسية لقياس قوة الدولة، تشمل الجغرافيا والسكان والموارد الطبيعية، والقوى الاقتصادية، والقوة العسكرية، والوظائف الحكومية، وخصائص المجتمع صانع القرار.
ركّز كيث ليغ Keith Leigh وجيمس موريسون James Morrison في هذا الاتجاه على ستة عوامل في قياس قوة الدولة، تشمل المصادر البيئية، والمصادر السكانية، والقدرات الثقافية أي نظام القيم، والقدرات الاقتصادية، والقدرات التنظيمية، والقدرات العسكرية، في حين يحدد أبرامو أورغانسكي Abramo Organski ستة عناصر لقياس تلك القوة، متمثلة في: السكان، والتنمية السياسية، والتنمية الاقتصادية، والأخلاق القومية، والمصادر أو الثروات، والجغرافيا، حيث تترابط –حسب نظره- تلك العناصر وتؤثر في بعضها البعض، وهو يطرح تقسيما للدول من حيث قوتها ودرة تلك القوة، فهناك دول ذات قوة ممكنة أو كامنة أو محتملة حيث الإنتاج منخفض والتصنيع لم يبدأ بعد، ودول في مرحلة النمو الانتقالي حيث يتحرك التصنيع بقوة، ويتحقق التحضّر وتنمو القوة الشاملة، ودول وصلت إلى مرحلة النضج في قوتها حيث اكتمل التصنيع، ولم يعد هناك نمو مفاجئ فيه.
حاول راى كلاين Ray Clin قياس قوة الدولة من خلال معادلة يتم فيها الجمع بين العناصر المادية والمعنوية، وطبقا لرأيه فإنّ قوة الدولة الشاملة تتكون من خمسة عناصر أساسية، وهي الكتلة الحيوية للدولة Critical mass التي تعنى الأرض والسكان، والقدرة الاقتصادية، Economic capability، القدرة العسكريةMilitary Capability ، الهدف الاستراتيجي Strategic Purpose، الإرادة الوطنية National will،
مخطط01: قانون كلاين لحساب القوة الشاملة للدولة
المصدر: محمد السمّاك، الجغرافيا السياسية الحديثة، (العراق: الموصل، دار الكتب للطباعة والنشر، 1993)، ص34.
03-منهج قياس قوة الدولة في حال توظيفها
يتعلق هذا المنهج بالقدرة على تعبئة وتوظيف عناصر قوة الدولة في موقف أو حدث أو ظروف معينة، أو في إطار متشابك من العلاقات على مستوى ثنائي أو جماعي محدود أي إقليمي، أو على مستوى النسق العالمي كله، ويطرح هذا الاتجاه عنصرين هما:
-الجمع بين دراسة الموارد، وقدرة الدولة على توظيفها؛
-وجود إطار يمثل تفاعلات حركة الدولة في المحيط البيئي لها.
برز في هذا الاتجاه نوعان من محاولات قياس قوة الدولة، وهي المحاولات التي يمكن تقسيمها إلى محاولات جزئية وأخرى متكاملة، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
أ-المحاولات الجزئية التي تندرج ضمنها محاولة كلاوس نور klaus knorr وجون هارساني John Harsanyi حيث ينطلقان من تعريف للقوة بأنّها قدرة الدولة (أ) على أن تجعل الدولة(ب) تتصرف أو تفعل شيئا بما يتفق وما تريده الدولة (أ)، وليس وفقا لإرادة الدولة (ب) أو رغبتها، وهناك محاولة مايكل سوليفان Michael Sullivan الذي أشار إلى هناك مستويين للقوة؛ مستوى ثنائي، ومستوى عالمي متعدد الأطراف، ويميل سوليفان للمستوى الثاني، حيث إنّ القوة تدرك كخاصية وطنية تتضمن قدرات سلوكية معينة، وكركيزة رئيسة في نظام معين.
ب-المحاولات المتكاملة التي تندرج تحتها ثلاث محاولات، تتمثل في محاولة غونار سجوستدت Gunnar Sjöstedt الذي تطرق إلى جملة من العناصر التي تجسد أساس القوة، وتشمل:
- عناصر الثروة، والتي تشمل القدرات العامة، أي كل ما يتعلق بالقدرات التي تستخدم القوة العسكرية، إضافة إلى القدرات المدنية مصادر القوة الخاصة، أي مصادر الثروة التي تمتلكها دولة ما كالموارد الأولية النادرة على غرار النفط، وأخيرا القدرات الخلاقة أي قدرة الأمم على انتاج المعرفة والتكنولوجيا.
- العناصر العلائقية التي تنبع من البيئة الخارجية، وهي سيطرة دولة ما على البيئة الخارجية، والمكانة في النسق الدولي، والقدرة الدفاعية أو القدرة على التحصين في مواجهة الأطراف الأخرى في السيطرة على سلوك دولة ما.
- عناصر المناورة التي تمثل قدرة الفاعلين على استغلال أساس القوة لديهم، بما يعني قدرة على التعبئة لأساس القوة والقدرة على الاستخدام الفعلي.
ضمن المحاولات المتكاملة لقياس قوة الدولة في حال توظيفها؛ هناك محاولة جيمس كولمان James Colman التي تعرف بقدرة الدولة في السيطرة على الأحداث، وتركّز هذه المحاولة على حساب أو قياس العمل الجماعي، وتقوم على أساس اختيار عقلاني لنظرية القوة، حيث إنّ الأسباب التي تدعو إلى السيطرة على الموارد، أو على الفاعلين الأخرين تنبع من الرغبة في انجاز أو تحقيق تصرفات، أو أهداف معينة، بما يزيد من منفعة أو مصلحة الدول الفاعلة.
تندرج المحاولة الثالثة من المحاولات المتكاملة لقياس قوة الدولة، ضمن محاولة أشلي تيليس Ashley Tellis وفريقه التي حددت ارتباط قياس الدولة بالهدف الخاص بالدول محل القياس، وقوة الدولة هي حصيلة الجمع بين درجة التجديد الاقتصادي والقدرات العسكرية والهيمنة كهدف خاص بالدولة.
يطرح هذا الفريق المعادلة التالية: قوة الدولة= (الموارد الوطنية+ الأداء الوطني) × القدرة العسكرية.
حيث الموارد الوطنية تتحدد في عناصر التكنولوجيا والمشروع الخاص، والموارد البشرية، والموارد المالية، والموارد الطبيعية؛
يتحدد الأداء الوطني في عناصر المحددات الخارجية، وقدرة البنية الفوقية، والموارد المحتملة أو المدركة؛
تتحدد القدرة العسكرية في كونها حصيلة جمع الموارد الاستراتيجية والقدرة التمويلية.