**/ أدبية الرحلة:

ظهر مصطلح الأدبية كمصطلح نقدي في الربع الأوّل من القرن العشرين، وذلك حينما ظهرت رؤية نقدية للحركة الشكلانية الروسية حيث حملت طرحا جديدا للأدب، فبدأت تتبلور كمنهج جديد في دراسة الأدب. كان بمثابة رد فعل على التيار الإيديولوجي الذي بصم دراسة الأدب[1].

يُعدُّ جاكبسون أول من اصطلح "الأدبية" على الخصائص التي تميز الأدب عن غيره؛ إذ يقول" ليس الأدب في عمومه هو ما يمثل موضوع علم الأدب، إنّ موضوعه هو الأدبية، أي ما يجعل من أثر ما أدبيا"[2].

وقدم بوريس اخنباوم تعريفا أكثر تفصيلا للأدبية حينما اشترط " أنّ موضوع العلم الأدبي يجب أن يكون دراسة الخصيصات النوعية للموضوعات الأدبية التي تميزها عن كل مادة أخرى"[3]. فالإلحاح على الخصائص التي يتميز بها الأدب عن غيره، هو سعي لتحرير الأدب من المواضيع غير الأدبية التي ألصقتها به مختلف المناهج وكادت تطغى عليه.

وقد ظل البنيويون متمسكين بالطرح الأوّلي معتبرين منهجهم علما، والأدبية موضوعا له، مركزين على كيفيات ومواضع اكتشافها في العمل الأدبي، فازدهر مصطلح الأدبية لديهم وشاع ما يعرف بأدبية الأدب[4].

ولما استفاد البنيويون الفرنسيون على الخصوص من الفتوحات العلمية في اللغة، استثمروا بعض مفاهيمها وثنائياتها، واقروا أنّ عملية البحث عن الأدبية" تبدأ من منطلق اللغة لا من منطلق وراء اللغة"[5]، وبذلك انتقل البحث إلى استجلاء مكامن هذه الأدبية التي أجمعوا أنّها لن تكون إلا داخل العمل الأدبي، وبصفة أدق داخل " الخطاب الأدبي" لتصير الأدبية بذلك نظرية حدد موضوعها " تحديدا أكثر دقة إذ أصبح الخطاب الأدبي وليس الأدب بصفة عامة موضوعا للأدبية"[6].

إذا كانت الدراسات النقدية الحديثة في بداية اشتغالها على الأنواع الأدبية، تهتم بإرساء المفاهيم الاصطلاحية والقواعد التنظيرية، فتقوم بتصنيف السياقات من خلال " المكونات الداخلية للنصوص التي ترد فيها"[7]، مميزة بذلك بين مختلف الخطابات الأدبية وغير الأدبية ثم تميز داخل الخطاب الأدبي - من خلال هذه المكونات- أنواعا من الخطابات كالخطاب الروائي والخطاب الشعري والخطاب قصة[8]، فإنّ كثيرا من الدراسات التي تلتها لم تعد ترى في ذلك ضرورة وذلك نظرا لتأصيل مفهوم الخطاب، وربطه بهذه الأنواع الأدبية إلى حد الذي أصبح فيه مصطلح الخطاب الروائي، أو خطاب القصة أو الخطاب الشعري بديهيات لا تحتاج إلى اثبات.

غير أنّ توقفنا عند المفاهيم الأولية للخطاب، ينطلق من الإشكال الإجناسي الذي ما زال مقترنا بالرحلة، والذي يرتبط بكيفية صدور خطابها وتكوّنه، ذلك أنه ناتج عن فعل الانتقال من مكان لآخر، في مدة زمنية معينة، وعليه يجدر أن نميز بين الرحلة كفعل والرحلة كخطاب.

إنّ للرّحلة بعدين: مادي وكتابي: أي الرحلة حركة في الفضاء من قبل شخص واقعي ينتقل من مكان لآخر في زمن محدد، مستكشفا تلك الأمكنة ومكوناتها، ثمّ يكتب هذا الشخص عن هذه الرّحلة معرفا بما شاهده، وعايشه من أماكن وأشياء وبشر وسلوك وكل ما رأى أنّه جدير التدوين؛ فالجميع متفق حول هذه المسألة، ويأتي اختلافهم حول تجنيس هذه الظاهرة الاستكشافية المتعددة الأبعاد والعناصر، فهل هذا الشكل التعبيري ينتمي إلى الأدب؟

لا ينكر أحد أهمية القيمة العلمية لما تحويه الرحلة من معلومات وحقائق تفيد الجغرافي والتاريخي وعالم الاجتماع والأنثروبولوجي وغيرهم. إلا أنّ الاستراتيجية التي يتبعها النقد الأدبي في التعامل مع الرحلة يجب أن يختلف عن كل هؤلاء.

فالنقد عندما ينظر إلى الأدب لا يقف عند حدود المعنى والمضمون، وإنّما كيفية قول المعنى الذي يجعل منه أدبا، ومن هنا فما يشغل النقد الأدبي – قبل استكشاف المعرفة التي تقدمها الرحلة – هو أدبية الرّحلة؛ وتتمثل الأسئلة المركزية في : هل الرحلة شكل أدبي؟ ما هي مقوماتها الأدبية؟ وإلى أي جنس أدبي يمكن أن نصنفها، وبأي استراتيجية يمكن قراءتها؟ هذه هي الأسئلة التي يجب أن يجاب عنها في مسألة تصنيف الرحلات من منظور الأدب والنقد.

لقد خلط كثير من الباحثين، منهجيا، بين مكونات الرحلة وأدبية الرّحلة، وبين دراسة المضمون في إطار الشكل وبين دراسة المضمون في إطار الحقل، فالأنثروبولوجي والجغرافي وعالم الاجتماع وغيرهم من أصحاب المعارف يدرسون الرّحلة في إطار الحقول المعرفية التي ينتمون إليها؛ فالرحلة بالنسبة إليهم عبارة عن وثيقة تاريخية تفصح عن معلومات ومضامين وقيم، أما النقد الأدبي فنظرته مختلفة؛ فمنذ تأسيس الشكلانيين الروس مفهوم الشعرية أو الأدبية لم يترك الباب مفتوحا للتخمين والانطباع عن قضية الأدب، فقد جعلوا الأدبية أو الشعرية بحا في السمات أو الخصائص التي تجعل من قول ما أدبا[9].

استنادا إلى هذا المفهوم فمعظم من تحدث عن الرحلة انصرف إلى مقومات خارجية لا تحقق أدبية الرحلة، فالوثائقية وتخييل الآخر أو حواره، ووصف المكان وتصويره، واكتشاف الثقافات والتعرف عليها كل ذلك لا يمت إلى الأدبية صلة؛ على الرغم من أهميته في التعريف بالرحلة لا أدبيتها.

فإذا أردنا أن نحدد بشكل قاطع علاقة الرّحلة بالأدب وأجناسه علينا التوجه إلى تحديد المحور الذي يجب النظر إليه من بين محاور الرّحلة.

فالرّحلة تضم بعدين مهمين: الأول هو الحدث المادي للرحلة بوصفها تنقل وارتحال في الفضاء والأمكنة، والوجه الثاني الصياغة اللغوية للرّحلة، أي الخطاب بوصفه كتابة عن ذلك الحدث الذي صار في الماضي، فالأدبية لا تشغل نفسها بالبعد الأول، فالأدبية يهمها طريقة صياغة الخطاب، ومن هنا نركز على الخصائص والسمات التي تحقق أدبية خطاب الرّحلة، فلا يهمنا مصداقية الرّحلة والمعلومات والأزمنة كثيرا؛ لأنّ الأدبية هي طريقة القول وليس صدق القول.

فالرّحلة، من منظور السرديات، صيغة لغوية لها سماتها الأسلوبية التي تميّزها عن غيرها من الأشكال التعبيرية، وأن المضامين والقيم ما هي إلا نتيجة لهذه الصيغة، وهذا الاختيار الأسلوبي؛ فهي حكاية يسردها راو محدد بصيغة وأسلوب محددين، وزمن معين، وأشخاص وأحداث، وفضاء كلي، وأمكنة متنوّعة.

الناقد الأدبي تحكمه أعراف الحقل النقدي التي تشكلت عبر صيرورة طويلة، أعراف شكّلت الإطار العام الذي يسمح للناقد باختيار استراتيجية في التعامل مع الأشكال التعبيرية سواء أكانت استراتيجية منجزة ومتشكلة في منهج نقدي واضح أم بابتكارات جديدة تمثل تطورا لحقل النقد. هذا الاتجاه في التعامل مع الرّحلة يقتضي تجنيس الرّحلة ضمن حقول المعرفة الإنسانية، ثم تجنيسها داخل حقلها المعرفي، فعندها القول بأنّ الرّحلة تنتمي إلى حقل الأدب يعني أنها تنتمي إلى حقول المعرفة الإنسانية، وكون خطاب الرّحلة نصا أدبيا فإنّ ذلك يستوجب تجنيسه داخل حقول الأدب وأنواعه.

إذا فأدب الرّحلة شكل أدبي له خصوصياته التي تشير إلى إضافة نوع أدبي جديد يسمى أدب الرّحلات، نوع يشبه الرواية من تنوع عوالمه ولكنه يختلف عنها من حيث تقنيات السرد التي يهيمن عنصر الزمن وتنوع إيقاعه في الرواية. وتقترب من السيرة الذاتية وأدب المذكرات من حيث تطابق الراوي والمؤلف وواقعيته، وتختلف عنهما في طريقة التبئير، ففي الرحلة، على الرغم من وجود التبئير، فإنّ السرد يراعي الموضوعية المرتبطة بمسائل خارجية تتمثل في هدف الرّحلة.

كذلك في مسألة تدوين الرّحلة يكون غالبا في أثناء السفر أو بعد نهاية الرحلة مباشرة؛ خلافا لأدب المذكرات والسيرة الذاتية التي تتمحور حول استدعاء الذاكرة من قبل المؤلف.

ومهما يكن من أمر فإنّ خطاب الرّحلة شكل تعبيري يصلح أن يمثل جنسا أدبيا من أهم ملامحه تعدد الملامح الشكلية، فهو يستضيف، كما الرواية، كما هائلا من الأساليب والصيغ والخطابات.

وبنظرة فاحصة فإنّ خطاب الرّحلة تمثيل سردي لحكاية واقعية يرويها شخص بضمير الأنا أو النحن أو الهو، وهذا يعني توافر الأسس العامة للسرد الذي هو " تمثيل لحدثين أو موقفين حقيقين أو متخيلين في ترتيب زمني، وكل منهما لا يفترض الآخر ولا يستلزمه"[10]، أو هو "تمثيل لأحداث ومواقف فعلية أو افتراضية متسلسلة زمنيا"[11].

ومن هنا يمكن الذهاب إلى أنّ خطاب الرّحلة جنس أدبي له قدرة هائلة على تمثيل الأحداث زمنيا. وتمثيل الأحداث وفق التسلسل الزمني يحقق التتابعية السردية، ويفترض حضور الراوي الذي ترتبط بوجوده مجمل آليات السرد الموظفة في الحكايات المنجزة أو المحتملة قديما أو حديثا.

فالرحلة نص سردي قابل للإدراك والتحليل والمساءلة من خلال السرديات بوصفها نظريات تعنى بدراسة النصوص ذات الطابع الحكائي.

***/ أثر أدب الرّحلة في النثر الجزائري :

اتخذت الرّحلة أهمية كبيرة لدى جلّ الأدباء الجزائريين، ونالت صيتًا وانتشارًا واسعاً، حاملة معها رؤىً وأفكارًا وتجارب، وثقافات جديدة كُنّا نجهلها، فزخر هذا الفن بمؤلفات عدّة عرفها الأدب، وتركت بصَّمتها فيه، فسَّاهمت في إثراء هذا اللون النثري وارتقت به إلى مصاف الآداب الأخرى.

ظلت الرّحلات موضوع اهتمام عديد من العلوم كالجغرافيا والأنثروبولوجيا والتاريخ، وعلم الاجتماع، والتربية والتعليم وغيرها، وكانت مصدرًا رئيسيًا لكثير من الباحثين الذين تأثرت أعمالهم بهذا الفن فأبدعوا وأمتعوا.

  إنّ للرّحلة فوائد جليلة تجعلها حاضرة إلى جانب الإبداعات الأخرى ذات قيمة تعليمية، التي تبرز حالة التّمكن من الجوانب العلمية على اختلافها. وقد نوه الإسلام إلى دور الرّحلة في طلب العلم، ودعا إليها راميًا إلى أغراض سامية، لقوله تعالى﴿ وما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُم طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمُ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِم لَعَلّهُم يَحْذَرُونَ[12]، وطلب العلم في الإسلام يتمحور حول التقفه في الدين والّلغة، والعلوم والصناعات، بالإضافة إلى الفوائد القيّمة التي تعود على صاحبها، أو على قومه وعلى البلاد التي حلّ بها.

من أعظم ما يكسبه صاحب الرّحلة من قيامه بالرّحلات هو العلم والمعرفة، فكم من عالم ذاع صيته بفضل المعارف التي حصل عليها في رحلاته، كما أن مواهب العالم قد تظهر في أثناء رحلته، فقد يحظى في البلاد التي انتقل إليها بحرية التفكير والكتابة، التي ربما لم يحظى بها في بلده، فتعظم مكانته وينتفع النّاس بحكمته فلولا الرّحلة لما أثمر فكره[13]، ليس هذا فقط بل إن الرّحلة جسر بين الثقافات ومرآة للمجتمعات لهذا أثريت الناحية العلمية بفضل هذا التبادل العلمي القائم على الالتقاء بكبار العلماء للأخذ والرواية عنهم والحصول على إجازاتهم العلمية في المراكز التي وصلوا إليها والتي تُعّدُ ينابيع فيَّاضة بالعلم والمعرفة[14].

أ/ المقّري التلمساني:

يعدّ المقّري التلمساني من الشخصيات الأدبية التلمسانية، كان كثير الترحال والتجوال، وله العديد من الرّحلات؛ منها:

رحلته إلى المغرب الأقصى: فبعد بلوغه سن الرّشد تاقت نفسه لزيارة العواصم العلمية بالمغرب الأقصى، وهي أول رحلة له كانت بإيعاز من عمّه، كما دفعته، أيضا، أسباب أخرى منها: طلب العلم مباشرة من العلماء، وسعيه للحصول على إجازات.

رحلته إلى تلمسان: عاد إلى بلده، وبقي على اتصال مستمر بأصدقائه وشيوخه حيث كانوا يزودونه بالأخبار والمعلومات، وكان ذلك عن طريق مراسلاتهم له، كما قام بتحرير كتابه" روضة الأس" ترجم فيه لكل من اجتمع معهم من الأعلام في كل من مراكش وفاس، واعترف بجميلهم، وتكلّم في مقدمته عن سلطانهم أبو العباس أحمد المنصور، وكان يسعى للعودة إلى المغرب الأقصى، ومغادرة تلمسان.

كان للمقري العديد من المؤلفات القيّمة والكثيرة أجاد فيها وأفاد، دلّت على تمكّنه وتبحره في العلوم وتميّز بذكائه وقوة حافظته، وهي عديدة؛ نذكر البعض منها فقط:

- روضة الأس العاطرة الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام الحضرتين مراكش وفاس: ولعلّه أوّل مؤلفاته، ذكرها في كتابه نفح الطيب، موضوعها أدب وتراجم للعلماء والأدباء الذين لقيهم واجتمع بهم في المغرب في أثناء رحلته الأولى والثانية، تحتوى على نصوص نثرية ومقاطع شعرية كما ترجم فيه لشيوخه الذين أجازوه وأخذ عنهم.

- أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض: ألفه في أثناء إقامته بفاس، وهو عبارة عن موسوعة أدبية تاريخية حول حياة القاضي عياض، وكلّ ما يتصل بأخباره.

- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين ابن الخطيب: بدأ تأليفه بعد رجوعه من دمشق إلى القاهرة.

هو موسوعة متكاملة تشمل الأدب والتاريخ وجغرافيا بلاد الأندلس، ونمط حياة أهله وسلوكياتهم وعاداتهم ومقوّمات تميّزهم.

- أسئلة وأجوبة شريفة حوت رقائق لطيفة ودقائق منيفة: وهو مجموعة أشعار في مدح دمشق، وفي أغراض أخرى.

- البدأة والنشأة: كلّه أدب ونظم.

وغيرها من المؤلفات الكثيرة والمتنوّعة التي خلّفها المقّري، والتي كانت ثمرة خبراته وتنقلاته في مختلف البلدان.

****/ أثر أدب الرّحلة في الشعر الجزائري :

إنّ الرّحلة في غالب الأحوال سلوك حضاري، غايته الإفادة والنّفع للفرد والجماعة، والرّحلة أكثر المدارس تثقيفا وتعليما وتربية للإنسان في كلّ العصور، كما تعدّ الرّحلة اليد التي تمد لتُقرب شعوبا من شعوب وأقوام، فصلت بينها بحار ممتدة، وقفار شاسعة، وجبال شاهقة، واختلاف في الألسن والألوان والأعراف والعادات.

وللرّحلة فوائد أخرى منها ما يحققه الرّحالة من مكاسب علمية وأدبية، وبخاصة إذا امتلك حسَّ البحث والملاحظة والتأمل والحوار وجمال اللغة والأسلوب والرغبة في التحصيل والتدوين.

تتجلى أهمية أدب الرّحلة الأدبية في كون كثير ما أورده هؤلاء الرّحالة في مذكراتهم يمكن أن يأخذ سبيله إلى عالم الأدب والخيال كأنموذج من أرق النماذج على الوصف الفني الحي المتميز بشيء لم نزل نفتقده في أدبنا، وهو" الانصراف عن اللهو والعبث اللفظي والطلاء السطحي، والإيثار للتعبير السهل المستقيم الناضج بغنى التجربة وصدق اللهجة الشخصية، ممّا لا نجده متوافرا عند البلغاء والأدباء المحترفين، ونجده بقوة عند العلماء والفقهاء الدين والمؤرخين وهؤلاء الكتاب الرحالين"[15].

أدب الرّحلة يحفل بكثير من" الأساطير والخرافات، وبعض المحسنات البلاغية، وجمال اللفظ، وحسن التعبير، وارتقاء الوصف، وبلوغه حدا كبيرا من الدقة، علاوة على ما يستعين به –أحيانا- من أسلوب قصصي، سلس، مشرق، وهذا هو الذي يجعل بعض الدارسين يدخلون أدبيات الرّحلات ضمن فنون الأدب العربي"[16].

إنّ أدب الرّحلة لم يقترب من فن القصة فحسب، بل اشتمل على جميع الفنون الأدبية، وكثيرا ما يلجأ الرّحالة إلى الاستشهاد بأبيات شعرية تبرز أدبيته، سواء كانت من نظم الرّحالة نفسه وهذا يثبت قدرته الشعرية والنثرية معا، وأحيانا أخرى يستعين بأبيات غيره ممّا يؤكد سعة إطلاعه ودقة معلوماته. وقد كان بعض الرّحالة شعراء فدفعهم ذلك لقوله في المواقف المختلفة في أثناء رحلتهم، ولاسيما عند فراقهم لموطنهم وتوديعهم للأهل والأصحاب، وعند ملاقاة العلماء أو الحنين للوطن وربوعه، أو عند الاقتراب من مكّة المكرمة أو المدينة المنوّرة، يقول فؤاد قنديل" الرحلات مصدر فريد لكثير من النصوص الأدبية شعرا كانت أم نثرا لإنفرادها برواية الكثير من النصوص، فالرحالة حرصوا على أن تضم رحلاتهم النوادر، فأدرجوا فيها كثيرا من قصائدهم الشعرية، رسائلهم النثرية مما له ارتباط بظروف الرّحلة، وهذا الأمر جعل الرّحلات ذات أهمية أدبية خاصة، فأكثر الرحالة لم تعرف لهم أشعار أو كتابات إلا من خلال ما دونوه في رحلاتهم، لذا عدت بمثابة دواوين لأصحابها، ومجموعات ضمت ألوانا من إنتاج عصرهم وأدبائه"[17].

الرّحالة يستعين بالشعر ليعبر عما يختلج في نفسه من مشاعر حركتها مشاهداته وملاحظاته، ومن هؤلاء الرحالة ابن حمادوش وابن عمّار اللذين نقلا أبيات كثيرة في رحلاتهما، وسنعتمد عليهما كنموذجين فقط.

أوّلا/ ابن حمادوش:

إنّ القارئ المتأمل لرحلة ابن حمادوش الجزائري يلفي أنّ صاحبها ضمّنها عددا كبيرا من الأشعار له ولغيره من الشعراء في مختلف الأغراض الشعرية، ولا غرابة في ذلك لأنّ الشعر له وجود ملحوظ في معظم الرّحلات حتى أنّه يعدّ من محكيات الرّحلة مثله مثل الأحاديث والأخبار والمشاهدات والقضايا اللغوية وغيرها[18].

ولهذا عدّت الرّحلات عموما ورحلة ابن حمادوش على وجه الخصوص من أهم المصادر التي حفظت لنا الكثير من النصوص الشعرية من الضياع، بل إنّها تضمنت نصوصا شعرية ربما قد لا نجدها في مصادر أخرى، فلو لم يوظف ابن حمادوش هذه الأشعار في رحلته لما أمكننا التّعرف عليها ولا على أصحابها ولا على الأغراض التي قيلت فيها.

إنّ تضمين الشعر هذا النص الرّحلي احتلّ فضاء ضمن فضاء الرّحلة النثرية ليصبح بنية وموضوعا أساسا في النص واستمرارا للسياق النصي وتنويعا له ليصبح الشعر المتضمن جزء لا يجوز فصله عن الرّحلة، ولعلّ توظيف ابن حمادوش لهذه الأشعار مرده إلى كثرة محفوظاته وثقافته الشعرية وقد يقصد من وراء هذا التوظيف إبراز مهارته وقدرته في النظم والنثر.

والقارئ المتصفح لمتن الرحلة يجد أنّ معظم صفحاتها تحتوي على أبيات شعرية والتي كان يأتي بها عادة للتدليل على بعض المسائل وأحيانا يوشّح بها مقدمات كلامه وخواتيمه.

كتب ابن حادوش في مختلف الأغراض، وهو ما استطعنا أن نستشفه من خلال كلامه في الرّحلة حيث يقول" بنيت ديواني على الغزل والنسيب والمراثي ومدح المصطفى".[19]

والواقع أنّ القصائد التي ذكرها في الرّحلة تتناول أغراضا أخرى غير تلك التي ذكرها، باستثناء الرثاء فقد جاء فيها أيضا بالمدح والحنين إلى الأهل والوطن والفخر والشكوى من كساد التجارة ومعاكسة الزمان والاستجازة من علماء المغرب ونحو ذلك، ولا يوجد في القصائد المذكورة في الرّحلة غزل ولا نسيب ولا مدائح نبوية. معنى هذا أنّ لابن حمادوش أشعارا ضائعة قالها في الأغراض التي ذكرها وجمعها في ديوان ما يزال مفقود.

وسنذكر فيما يلي عدد القصائد والقطع التي عثرنا عليها في الرّحلة والأغراض التي قيلت فيها ومطالعها.

1/ القصيدة الأولى التي سجلها في رحلته قالها في مدينة تطوان، ووجّهها إلى الشيخ محمد بن عبد السلام البناني يستجيزه فيها، وهي قصيدة لامية تبلغ اثنتي عشر بيتا مطلعها[20]:

سَمَوْتَ فَلَمْ يَكُنْ بِقُرْبِكَ نَازِلُ     فَكُنْتَ في أوَّجِ العِزِّ تُمْطِرُ بالسُؤْلِ

2/ القصيدة الثانية في ذم أولاد مختار بالمغرب من بخلهم حين مرّ بهم الرّحالة وهو في طريقه من تطوان إلى مكناس، وقد عبّر فيها عن الخوف الذي ساوره هو ورفاقه لأنّ ليلتهم كانت محفوفة بالخطر من أولئك القوم وتبلغ القصيدة تسعة عشر بيتا مطلعها[21]:

ولَيْلَة مُخْتَارٍ يَبِيتُ بِهَا هَمٌّ    مَدَى الدَّهْرِ لا يُرْجَى يَحُورُ عَنِ الهَمِّ

3/ قصيدة قدّمها وقرأها على الحكيم عبد الوهاب أدراق (طبيب السلطان مولاي إسماعيل وأولاده من بعده) وكان ذلك بمدينة فاس، ومطلعها[22]:

أَيَا سَيّدِي عَبْدَ الوَهَابِ تَحِيَّةً    وبُشْرَى لَكُمْ أَهْدَى وأنْدَى مِنَ الظِّلِ

أَتَيْتُكَ يَا مَلْجَأَ البَرِيَةِ كُلَّهَا    تَنُولُنِي عِلْماً فَنَبْرَأُ مِنَ الجَهْلِ

وخَلَّفْتُ أُمِّي والعِيَالَ وَصِبْيَةً    كَأنَّها أَفْرَاخُ الحَمَامِ لَدَى الوَصْلِ

والقصيدة في عشرة أبيات.

4/ قصيدة أخرى قدّمها إلى الشخص نفسه، لكن موضوعها هو وصف الحمى التي أصابته عندما كان جالسا في مجلس الحكيم أدراق حيث أصابته الحمى، فخرج من المجلس وذهب إلى بيته فتداوى، وبعد برئه عاد إلى المجلس، ووصف فيها للحكيم ما أصابه، كما وصف مجلس هذا الحكيم الذي قال إنّه كمجلس الملوك وإنّ قصره كقصورهم والقصيدة في أحد عشر بيتا، ومطلعها[23]:

أيَا شَيْخَنَا عَبدَ الوَهابِ سَعَادَةً   لِتَعْلَمَ مَا حَازَ الفُؤَادَ مِنَ الحَدْسِ

5/ قصيدة استجاز بها الشيخ أحمد بن المبارك بفاس وهي ثلاثة عشر بيتا وفيها مدح وتذلّل ووصف متشائم لحالة العلوم في عصره[24]:

أَيَا شَيْخَنَا شَيْخَ البَرِيَةِ كُلَّهَا    أَسَيِّدِي أَحْمَدُ المُبَارَكُ في الدَّهْرِي

عَلَوْنَ عَلَى أَعْلا ذُرَى المَجْدِ رِفْعَةً   فَكُنْتَ فِي أَوّجِ العِزِّ كالكَوْكَبِ الدُرِّيِّ

6/ قصيدة أخرى في رثاء الشخص نفسه الذي توفي قبل أن يكتب له الإجازة وتبلغ ثلاثين بيتا، وقد ذكر ابن حمادوش أنّه أوّل من رثى الشيخ ابن المبارك، ومطلعها[25]:

أَفَلْتَ يَا شَمْسَ الغَرْبِ في حُجُبِ الثَرَى   وأَبْقَيْتَ فَاسًا في الظّلامِ وفي الغَمِّ

7/ قصيدة في تهنئة السلطان عبد الله بن إسماعيل على هزيمة ومقتل الثائر أحمد الريفي، وتبلغ القصيدة ثلاثة عشر بيتا ومطلعها[26]:

أَمَوْلاي عبد اللهِ بِشْرُكَ الهَنَا   بٍكُلِّ الذي تبغِي من الفَتْحِ والنَصْرِ

8/ قصيدة أخرى في نفس السلطان في أثناء ولايته الأولى، أي قبل القصيدة السابقة، ومطلعها[27]:

قَطَعْتَ بِحَاراً مُوهِلاتٍ  وَدُونَها    قِفَاراً لا تأْوِيهَا الوُحُوشُ مَعَ الطَيْرِ

وهي في خمسة وثلاثين بيتا.

9/ قصيدة ذاتية كتبها لما أدركه عيد الأضحى وهو في تطوان بعيد عن أهله ووطنه، وليس له مال وقد تحطّمت السفينة التي كانت ستحمله هو وأصحابه إلى الجزائر، ووصف فيها هطول الأمطار وغربته وكساد سلعته، واجتماع الناس يوم العيد وبقاءه وحيدا يائسا، وقد بلغت القصيدة ثلاثين بيتا. يقول فيها[28]:

لَقَدْ كُنْتُ قَبْلَ اليوْمِ أَصْبَرَ صَابِرٍ    وهَا أَنَا في هَذَا الأوَانِ ذَلِيلُ

أَنُوحُ عَلَى بُعْدِ الدِيَارِ صَبَابَةً   نَوَاحِي الثَكَالَى تَحْسَبُونِي جَمِيلُ

10/ رجز في واحد وعشرين بيتا قاله يوم تحطّمت السفينة التي كان سيسافر عليها من تطوان إلى الجزائر، وقد عبر فيها عن لوعة الحنين إلى أطفاله وزوجته ومطلعها[29]:

أَيَا أُمَّ عَبْدٍ صَبْرِي تَصْبُرِي   وأَيْقِنِي أنِّي عَلَى الأمْرِ جَرِيٌ

11/ قصيدة هجا فيها الشاعر المفتي ابن علي وافتخر عليه فيها بنفسه وشرفه وذكر فيها أنّه على الرّغم من كونه لم ينل حظا في  الدّنيا فإنّه يكفيه مجدا انّه من آل علي بن أبي طالب وأنّ أجداده من قبيلة بني

 

هاشم، وهي في أربعة عشر بيتا[30]:

خَرَجْتُ ذَلِيلاً لا أَعُود لِمِثْلِهَا   وَهَلْ يُجْمَعُ السَيْفَانِ وَيْحَكَ في غِمْدِ

فَإِنِّي من اللّائين فَوْقَ الثَّرَى تَرَى    وَأَنْفُسَنَا فِي العَرْشِ تَابِعَةُ المَجْدِ

هذه، إذا، نماذج من أشعار ابن حمادوش وجدناها مبثوثة في رحلته فارتأينا الإشارة إليها لكونها تشكل نموذجا لصاحبها ولشخصيته وأسلوبه.

وبهذا فإنّ الرّحلة تعدّ عماد التلاقي والاتصال وأساس المعرفة والاطلاع، فهي تساعد على تنمية المعارف وتطويرها وتساهم في تهذيب النفوس وتقويم الطباع، فهي أكثر المدارس تثقيفا للإنسان، فالسفر درس تجريبي، ومدرسة تعلم الناس وترشدهم إلى الصواب.