Section outline

  • المحور الثاني: مستقبل الخطأ في ضوء بروز أسس حديثة للمسؤولية المدنية
    باعتبار أن المسؤولية المدنية هي علاقة دائنية بين دائن (المضرور) ومدين (المسؤول) تقتضي لقيامها أيا كان نوعها ثلاثة أركان وهي: الفعل المولد للضرر، الضرر، العلاقة السببية، وسنعالج شروط المسؤولية المدنية من خلال البحث في الفعل المولد أو المنشئ للضرر والذي يختلف باختلاف نوع المسؤولية، حيث تكون العبرة بالفعل الشخصي أو بالأحرى بالخطأ في المسؤولية عن الأعمال الشخصية، وبفعل الغير في المسؤولية عن عمل الغير، وبفعل الشيء في المسؤولية عن فعل الشيء. أولا: الفعل الشخصي: الخطأ تنص المادة 124 ق.م.ج على أنه: «كل فعل أيا كان يرتكبه الشخص بخطئه ويسبب ضررا للغير يلزم من كان سببا في حدوثه بالتعويض»، وتقابلها المادة 163 من ق.م.مصري، التي تنص على أنه: «كل خطأ سبب ضررا للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض»، والمادة 1883 من ق.م.فرنسي التي تنص على أن: «كل عمل يوقع ضررا للغير يلزم من وقع هذا الضرر بخطئه أن يقوم بتعويضه». أما المسؤولية المدنية في القانون الأردني تختلف قليلا في شروط قيامها، أو في مواجهة الأشخاص ذلك أن القانون المدني حدد ركن الضرر كأساس لقيامها، واكتفى بهذا الركن دون التصريح بوجود أركان أخرى كركن الخطأ وعلاقة السببية بين الخطأ والضرر، وتقوم هذه المسؤولية سواء كانوا مميزين أو غير مميزين، وفرق بين الضرر بالمباشرة والضرر بالتسبب[1] استنادا إلى هذه المواد التي حددت أركان المسؤولية عن الأفعال الشخصية المتمثلة في الخطأ، الضرر، العلاقة السببية، سنقوم بتحديد الركن الأول وهو الخطأ. 01 – تعريف ركن الخطأ: لم يحدد المشرع الجزائري تعريف الخطأ لما فيه من الدقة والصعوبة، ولكن الرأي الراجح فقها وقضاء أن الخطأ هو الانحراف عن سلوك الرجل المعتاد ، مع إدراك الشخص لذلك، وبعبارة أخرى هو الإخلال بالالتزام القانوني الذي يفرض على كل شخص عدم الإضرار بالغير، وأن يراعي في سلوكه الحيطة والتبصر حتى لا يضر بغيره، وهذا الالتزام هو التزام ببذل عناية وليس بتحقيق نتيجة، وبالتالي إذا انحرف عن هذا السلوك اعتبر مخطئا واستلزم ذلك قيام مسؤوليته [2]. 02 – عناصر الخطأ: للخطأ عنصرين؛ يتمثل الأول في الانحراف أو الإخلال بواجب ما، وهذا هو العنصر المادي، أما العنصر الثاني فهو انتساب هذا التعدي إلى المسؤول ،مما يستوجب التمييز والإدراك لديه وهذا هو العنصر المعنوي للخطأ. أ – العنصر المادي: التعدي عرف عبد الرزاق أحمد السنهوري التعدي بأنه: «مجاوزة المرء للحدود التي عليه التزامها في سلوكه»[3]، وباعتبار التعدي هو الركن المادي للخطأ والذي يتشكل عند تجاوز حدود اليقظة والتبصر المفترضين قانونا، فالمخطئ كي يعد مخطئا وتثار مسؤوليته يجب أن يكون متجاوزا (متعديا) لهذه الحدود من التبصر والعناية في سلوكه، لذا سنبحث في تحديد مجال التعدي ومعيار تقديره. • مجال التعدي: يتمثل التعدي باعتباره العنصر المادي للخطأ في الإخلال بواجب أو قاعدة قانونية من جهة، وفي التعسف في استعمال الحق من جهة أخرى. - الإخلال بواجب أو بقاعدة قانونية: يتحقق التعدي كلما كان الفعل، الذي يرتكبه الشخص مخالفا لقاعدة قانونية أو واجب قانوني كالإخلال بالنصوص القانونية الآمرة، كالواجبات التي يرتبها قانون المرور على السائق تجاه المارة، وواجبات المالك نحو جيرانه، وواجبات الطبيب نحو المريض، وواجبات المتدخل نحو المستهلك، وواجبات الموثق والمحضر القضائي. ويعد الإخلال بهذه الواجبات تعديا ،بغض النظر عن نوع الجزاء الذي يرتبه المشرع على مخالفة هذه الواجبات، فقد يكون عقوبة جزائية وقد يكون جزاءا مدنيا أو إداريا، وقد استخلص الاجتهاد القضائي الفرنسي، استنادا إلى المبادئ الأخلاقية منها الأمانة والنزاهة بعض الواجبات القانونية كحسن النية، الالتزام بالإعلام، إذ يعتبر الكذب أو الكتمان، أو التفريط في السلطة، أو الوعود الكاذبة بقصد تسهيل إبرام عقد، أو المساس بسمعة الفرد ومصداقيته عن طريق ترويج إشاعات كاذبة في بعض الحالات كخطأ مدني تترتب عليه مسؤولية مدنية[4]. - التعسف في استعمال الحق: إذا كان الفرد يهدف من وراء استعماله لحقه إلى تحقيق مصلحة خاصة به فإنه بالمقابل لا يجوز أن يتعارض هذا الاستعمال مع مصلحة الغير، وإذا كان القانون يحمي صاحب الحق في استعماله لحقه، فإنه يحميه طالما انه كان يسعى إلى تحقيق مصلحة مشروعة من وراء هذا الاستعمال، فإذا تجاوز هذا النطاق واستعمل حقه استعمالا غير مشروع تخلت عنه الحماية القانونية[5]، ومن ثمة يعتبر استعمال الحق بقصد غرض آخر تعسفا يرتب مسؤولية مدنية، وفي ظل هذه الاعتبارات الاجتماعية والقانونية الجديدة جعلت جل التشريعات الحديثة من التعسف في استعمال الحق أو إساءة استعمال الحق مصدرا مستقلا للمسؤولية المدنية، ومن ذلك نذكر المشرع اللبناني الذي عرفه ضمن المادة 124 من قانون الموجبات والعقود بأنه: «يلزم أيضا بالتعويض من يضر بالغير بتجاوزه في أثناء استعمال حقه حدود النية أو الغرض الذي منح من أجله هذا الغرض»[6]. فالمشرع اللبناني اعتبر التعسف في استعمال الحق، متحققا عند تجاوز صاحب الحق حدود حسن النية، أي عند قيام سوء النية لديه أثناء استعمال حقه، كما يتحقق التعسف في استعمال الحق أيضا عند تجاوز صاحب الغرض، الذي من أجله منح هذا الحق وينبغي طبعا أن تكون هذه المصلحة المراد تحقيقها أو حمايتها باستعمال الحق مصلحة مشروعة. كما تطرق المشرع الأردني للتعسف ضمن نص المادة 66 من القانون المدني الأردني تحت عنوان «إساءة استعمال الحق» بأنه: «يجب الضمان على من استعمل حقه استعمال غير مشروع»[7]، إن تعميم الحكم بالضمان في هذه المادة أمر غير سديد لان معظم حالات التعسف ،إنما يمنع فيها صاحب الحق من ممارسة حقه ولا يضمن تضمينا وفي بعضها يعوض عليه من حقه بتعويض عادل، من حساب المتضرر الذي كان المنع لمصلحته وبطلبه [8]. أما المشرع المصري فقد تطرق للتعسف في المادتين: 04 و05 من القانون المدني، حيث قضت المادة 04 بأنه: «من استعمل حقه استعمالا مشروعا لا يكون مسؤولا عما ينشأ عن ذلك من ضرر» وأوردت المادة 05 الحالات التي يعتبر فيها استعمال الحق غير مشروع وهي بمثابة ضوابط ومعايير للتعسف. أما بشان موقف المشرع الجزائري، من مسألة التعسف فلم يقف عند نية الإضرار بالغير ونص على ضوابط هذه النظرية ضمن المادة 124 مكرر التي قضت بأنه: «يشكل الاستعمال التعسفي للحق خطأ لاسيما في الحالات التالية: - إذا وقع بقصد الإضرار بالغير. - إذا كان يرمي للحصول على فائدة قليلة بالنسبة للضرر الناشئ للغير. - إذا كان الغرض منه الحصول على فائدة غير مشروعة». الملاحظ على نص هذه المادة أن المشرع الجزائري، خالف التشريعات السابقة إذ لم يتناول القاعدة العامة التي تقضي بأن : «من استعمال حقه استعمالا مشروعا لا يكون مسؤولا عما ينشأ عن ذلك من ضرر يصيب الغير»، كما أن المشرع الجزائري صاغ هذه النظرية صياغة أعطت لها مدلولا أوسع من المدلول، الذي أعطته لها باقي التشريعات، كما استعمال عبارة «التعسف» متفاديا بذلك عبارة «العمل غير المشروع» مثلما عبر عنه المشرع الأردني وعبارة «العمل غير الجائز» كما عبر عن ذلك المشرع اللبناني، كما انه أعاد صياغة هذه النظرية صياغة جديدة مقارنة بالنص القديم في المادة 41 الملغاة[9]. وبذلك فإن التعسف في استعمال الحق بقصد الإضرار بالغير يعتبر خطأ، بل هو خطأ عمدي باعتبار أن القصد الوحيد، الذي انصرفت إليه نية صاحب هذا الحق هو الإضرار بالغير، وبالتالي يمكن القول أن التعسف في استعمال الحق، يعد تطبيق من تطبيقات المسؤولية التقصيرية وخاضع لرقابة القانون، فإذا تعسف صاحب الحق في استعماله فإنه يلتزم بالضرورة بالتعويض على أساس مسؤوليته التقصيرية، وبالتالي إصلاح الضرر الناجم عن هذا الاستعمال التعسفي. وتجدر الإشارة إلى أنه هناك حالات، لا يعتبر فعل الشخص فيها خطأ بالرغم من أنه ترتب على فعله إلحاق أذى بالغير، ومن ثمة لا يتوجب فعله المسؤولية، وهذه الحالات هي: - حالة الدفاع الشرعي: المادة 182 ق.م.ج. - حالة تنفيذ أوامر الرئيس: المادة 129 ق.م.ج. - حالة الضرورة: المادة 130ق.م.ج. - حالة رضا المجني عليه[10]. • معيار تقدير التعدي: إن السؤال الذي يطرح نفسه هو متى يعتبر الخطأ موجبا للمسؤولية؟ أو بعبارة أخرى متى يعد الخطأ تعديا على التزام قانوني؟ أو ما هو المعيار الذي يقاس عليه فعل الشخص. يُرَدُّ هذا المعيار إلى إحدى الوجهتين: وجهة ذاتية أو وجهة موضوعية، فبالنسبة للمعيار الشخصي يتعين أن ننظر إلى الشخص المسؤول عن الضرر، لا إلى الضرر ذاته فنبحث هل من وقع منه يعتبر بالنسبة إليه ،انحرافا في السلوك أي سلوكه هو، فإذا كان سلوكه على درجة كبيرة من اليقظة وحسن التدبير، فإنه يسأل على أقل انحراف في سلوكه وإذا كان دون المستوى ، فإنه لا يسأل إلا إذا كان الانحراف في سلوكه انحراف كبيرا وبارزا، فإذا كان هذا المعيار عادلا بالنسبة لمن وقع منه الضرر، لكنه غير عادل بالنسبة للمضرور، وخاصة إذا كنا بصدد أضرار جسمانية[11]، يتضح فيها بجلاء ضعف مركز المضرور، وبالتالي يعد هذا المعيار مجحف في حقه، ويعتد هذا المعيار بظروف الشخص ذاته من حيث حالته النفسية والعقلية والبدنية ومدى ذكائه وثقافته، وهذا يعني أن أقل انحراف السلوك الشخصي اليقظ سيعد خطأ، أما انحراف الشخص العادي في السلوك فإنه كي يعد خطأ يجب أن يكون انحرافا واضحا، ويتميز هذا المعيار بأنه واقعي ويعامل كل شخص وفقا لظروفه، وهذا المعيار لا يتفق مع العدل والمساواة وهما أهم الأهداف التي يحرص القانون على تحقيقها[12]، لأن القاضي يتولى تقدير سلوك الفرد على ضوء العوامل السابقة من حالته الاجتماعية الثقافية الصحية، جنسه وسنه، فقد يعتبره انحرافا وقد يعتبره غير ذلك، والحقيقة أن هذا أمر صعب المنال، لذلك رجح المعيار الموضوعي المجرد أين يتولى القاضي تقدير سلوك الشخص، قياسا على سلوك الشخص العادي، أي السلوك المألوف لشخص يمثل أوسط الناس، فهو متوسط الذكاء والعناية والحذر وذو حيطة وضمير، فلا هو شديد اليقظة والحرص ولا هو مهمل كل الإهمال[13]، فإذا أردنا معرفة إذا كنا بسبب خطأ أم لا، فيجب قياس مسلك مرتكب الضرر بمسلك الشخص المعتاد فإذا وجدنا بأن المسلكين متفقين، بمعنى أن الشخص المعتاد لو وجد في نفس الظروف الخارجية لمرتكب الضرر، كان سيتخذ نفس المسلك الذي اتخذه مرتكب الضرر فلا نكون بصدد خطأ، أما إذا نتج من القياس أن الشخص المعتاد ما كان ليسلك نفس السلوك الذي سلكه مرتكب الفعل الضار، فمعنى ذلك أن مرتكب الضرر قد انحرف عن سلوك الشخص المعتاد بعبارة أخرى أنه قد أخطأ[14]، وسلوك الرجل المعتاد ليس نوعا واحد بالنسبة لكل الأشخاص بل هناك نموذج لكل فئة أو مجموعة من الأشخاص، فسلوك الفلاح مثلا يقاس على سلوك الفلاح العادي، وسلوك الطبيب يقارن بسلوك الطبيب العادي، ويظهر أن المشرع قد اعتمد بالنسبة للأخطاء العقدية المعيار المجرد، حيث أشار في العديد من أحكام القانون المدني، إلى عناية الشخص العادي، ولا شك أن الاجتهاد القضائي سيعتمد المعيار المجرد خاصة وأنه سهل التطبيق[15]. ب – العنصر المعنوي: الإدراك والتمييز إلى جانب الركن المادي للخطأ والذي هو الانحراف عن سلوك الرجل العادي –كما أشرنا سالفا- فالإدراك هو الركن المعنوي في الخطأ، وبذلك لا يكفي أن ينحرف الشخص عن سلوك الرجل العادي، وإنما يجب أن يكون من انحرف عن هذا السلوك مدركا لهذا الانحراف، فلا مسؤولية بدون تمييز، وتبعا لذلك فالصبي غير المميز والمجنون والمعتوه وفاقد الوعي لسبب عارض كالسكر والغيبوبة والمرض والمنوم تنويما مغناطيسيا إن لم يكونوا قد اختاروا ذلك بإرادتهم ، فإن المسؤولية هنا لا تقوم ، وبالتالي فلا مسؤولية على من كان فاقد التمييز، لأنه ينعدم الخطأ لانعدام التمييز لديهم، إذ ليس بإمكانهم التمييز بين الخطأ والصواب. ولكن منذ أواخر القرن التاسع عشر ظهرت النظريات الموضوعية، التي لا تعير للخطأ أي اهتمام وتقيم المسؤولية عن الضرر، بغض النظر إن كان محدثة مميزا أو غير مميز[16]. وبالنسبة لمسؤولية عديم التمييز عن فعله الشخصي، فإن المشرع الجزائري بعد إلغائه للفقرة 02 من المادة 125 ق.م.ج قد وضع حدا للتساؤلات والاختلافات الفقهية حول عديم التمييز والتي كانت تنص على أنه: «غير انه إذا وقع الضرر من شخص غير مميز ولم يكن هناك من هو مسؤول عنه أو تعذر الحصول على تعويض من المسؤول جاز للقاضي أن يحكم على من وقع منه الضرر بتعويض عادل مراعيا في ذلك مركز الخصوم»، فمن الفقهاء من قال بأن المشرع استمد هذا الحكم من الشريعة الإسلامية فأخذ بالمسؤولية الموضوعية لكون العبرة بالضرر، وعليه يكون عديم التمييز مسؤولا إذا تبين أن الفعل الضار ينسب إليه، وهناك من اعتقد أن مسؤولية عديم التمييز قوامها تحمل التبعة باعتبار أن هذه النظرية لا تقيم للتمييز وزنا، وهناك من يرى أنها مسؤولية استثنائية احتياطية جوازية ومخففة، ويرى رأي أخير أن هذا الالتزام بالتعويض يستند لفكرة العدالة وهي حالة مستقلة عن مفهوم المسؤولية[17]. إلا أن قيام المشرع الجزائري بالتعديل الأخير للقانون المدني، ألغى الفقرة 02 من المادة 125، وبالتالي يكون قد ألغى المسؤولية الشخصية لعديمي التمييز، وكل ما في الأمر أنه استحدث نظاما تعويضيا مستقلا يستند ،إلى العدالة تفاديا لنقائص الخطأ باعتباره أساس نظام المسؤولية، ويرى الدكتور فيلالي علي «أن المشرع الجزائري قد وفق عند إلغائه للفقرة 02 من المادة 125، حيث تجنب كل تحريف للمبادئ التي استقر عليها نظام المسؤولية المدنية ،والتحق بالنظم القانونية العربية، التي لا تقر مسؤولية عديم لتمييز كالمسطرة المغربية والمدونة التونسية، ويتبين أيضا من اعتماد هذا الحل أن المشرع الجزائري لم يتبع التشريعين الفرنسي والمصري[18] اللذان مازالا يحتفظان بهذه الرخصة للقاضي، حيث تقضي المادة 489 فقرة 02 من ق.م.ف بأنه: «كل من أحدث ضررا للغير وهو تحت اضطراب عقلي ملزم بتعويض الضرر الذي تسبب فيه»، والمادة 164 فقرة 01 من ق.م.م التي تنص على أنه: «... ومع ذلك إذا وقع الضرر من شخص غير مميز ولم يكن هناك من مسؤول عنه أو تعذر الحصول على تعويض المضرور جاز للقاضي أن يلزم من وقع منه الضرر بتعويض عادل مراعيا في ذلك مركز الخصوم»، وهنا يرى الباحثين على غرار الدكتور بن الزوبير الذي يقول: « .. أن المنحى الذي ذهب إليه كل من التشريعين الفرنسي والمصري، بشأن إقرار هذه المسؤولية الاستثنائية بأن الناحية الأخلاقية، تستوجب عدم التضحية بحق المضرور وتركه دون تعويض بحجة حماية عديم التمييز، ويبدو هذا الأمر أكثر صعوبة في الحالة التي يكون فيها عديم التمييز أيسر حالا ماديا من المضرور، ومن هنا يتضح بجلاء أن الحل الأخلاقي والعادل هو إقرار مسؤولية عديم التمييز عن أفعاله الضارة، وعليه نقترح إعادة إقرار المسؤولية الاستثنائية لعديم التمييز على النحو الذي كانت عليه في المادة 125 فقرة 02 قبل التعديل، وبالموازاة مع ذلك البحث عن كيفية التعويض، وهنا يتوجب إدراج ذمم أخرى إلى جانب ذمة عديم التمييز ،ومن يتولى رقابته في تحمل عبء التعويض، وقد وجهت مثل هذه الحالات بخصوص حوادث السيارات وإصابات العمل وتعويض ضحايا الإرهاب وغيرها من التطبيقات وبذلك تتحقق العدالة، ولا نكون قد ضحينا بمصلحة المضرور على حساب عديم التمييز أو العكس، فالأمر يتطلب أن يتم في نسق متوازن أي مراعاة مصلحة عديم التمييز والمضرور معا، وبذلك يكون أفضل ضمان أن يكون هناك نص خاص يلزم الدولة يتحمل عبء هذه التعويضات ،التي يسأل عنها عديم التمييز، وبالتالي يقترح تطبيق المادة 140 مكرر 01 ليشمل التعويض عن الأضرار التي تسبب فيها عديمي التمييز، والتي لا يفلح فيها المضرور في الحصول على تعويض من متولي الرقابة إما لانعدامه أو بسبب كونه معسرا ولا أمل في يسره»[19]. ومن الحلول العملية التي نادى بها ،أيضا جانب من الفقه الفرنسي والعربي في محاولة منه للتوفيق بين مصلحة كل من عديم التمييز والمضرور، في آن واحد إخضاع المسؤولية الخاصة بعديم التمييز لنظام التأمين الإجباري، على غرار التأمين الإجباري من حوادث المرور. ويقسم الخطأ التقصيري إلى نوعين: - خطأ تقصيري محدد، وهو يعبر عن نظم وضوابط خاصة واجبة الاتباع، إذ يكفي مخالفة ضابط ما في مجال طرق البناء أو الصحة أو المعمار أو البيئة لترتيب قرينة الخطأ وكأننا أمام مخالفات. - الخطأ غير المحدد، وفي هذه الحالة نكون أمام إخلال بواجب عام، ويعتبر عدم النزول عند مقتضيات هذا الواجب إخلالا به،و هنا دأبت القوانين اللاتينية وعلى رأسها القانون الفرنسي على طرح موجه عام، على هديه يمكن تسجيل الإخلال من عدمه يسميه بعض الفقهاء الفرنسيين: (NOURME DE CIVILITE) أو ضابط المدينة والتحضر[20]. ثانيا– قيام المسؤولية دون التحقق من الركن المادي للخطأ: قرر القضاء في بعض تطبيقات المسؤولية عن الفعل الشخصي قيام المسؤولية حتى دون التحقق من قيام الركن المادي للخطأ، ونستدل بذلك على مضار الجوار غير المألوفة، حيث تعتبر المسؤولية عن مضار الجوار غير المألوفة، تطبيقا ومظهرا آخر من تطبيقات ومظاهر المسؤولية الموضوعية، أين يفتقد أي دور للخطأ، وقد أصبح الجوار في ظل التطور السريع ضمن مجال التشييد والعمران ،يرتب جملة من مضار متكررة في الحياة اليومية بين الجيران، لتتشكل بذلك دائرة من المنازعات الجوارية أمام القضاء، وقبل البحث في الأساس القانوني الذي تقوم عليه مسؤولية مالك مضار الجوار غير المألوفة سنتولى تحديد المقصود بهذه المضار. 01 – تعريف مضار الجوار غير المألوفة: عرفها المشرع الجزائري من خلال المادة 691 ق.م.ج على أنها: «على المالك أن لا يغلو في استعمال حقه إلى حد يضر بملك الجار، وليس للجار أن يرجع على جاره في مضار الجوار المألوفة التي لا يمكن تجنبها، وإنما له أن يطلب إزالة هذه المضار إذا تجاوزت الحد المألوف، على أن يراعي في ذلك العرف وطبيعة العقارات وموقع كل منها بالنسبة للآخر والغرض الذي خصصت له، ولا يحول الترخيص الصادر من الجهات المختصة دون استعمال هذا الحق». وجاء منظور المشرع المصري لهذه المضار ضمن نص المادة 807 ق.م.م وقد أوجب المشرع على المالك ألا يغلو في استعمال حقه، إلى حد يضر بملك الجار لكن يجب ألا يفهم من ذلك أن مجرد الغلو أو التعسف في استعمال حق الملكية، إلى حد يضر بملك الجار يرتب مسؤولية المالك، وإنما يجب الوقوف على الأضرار التي يترتب عليها قيام مسؤولية المالك، لذلك تأتي الفقرة 02 من هذين النصين لتبين حدود هذا الالتزام فالمالك لا يسال أيا كان الضرر، بل يجب أن يتجاوز الضرر الحد المألوف، وهذا ما يستخلص من مضمون الفقرة بقولها: «ليس للجار أن يرجع على جاره في مضار الجوار المألوفة التي لا يمكن تجنبها، وإنما له أن يطلب إزالة هذه المضار إذا تجاوزت الحد المألوف»، وعلة ذلك واضحة حيث أن المالك، لم يرتكب تقصيرا كما انه لم يتعسف في استعمال حقه، فهو يبغي تحقيق مصالح جدية ومشروعة، كما أنه التزم في استعمال حقه مضمون وحدود هذا الحق، ولذلك لو سئل المالك عن أي ضرر يلحق بسبب استعماله لحقه لأصبح الملاك في حرج شديد ولغلت أيديهم عن استعمال حقوقهم[21]. إذ لا يأمن الملاك مهما بلغ حرص كل منهم، في استعماله لحقه من أن يترتب على هذا الاستعمال قدرا من الضرر للجيران، ولرفع هذا الحرج يجب أن يتحمل كل منهم قدرا معينا من الأضرار التي يفرضها الجوار ويمكن التسامح فيها، وهي الأضرار التي يصطلح عليها بمضار الجوار المألوف، أما بشأن بيان الظروف التي يعتد بها القاضي في تحديد الضرر غير المألوف، تم النص على أنه يراعى في ذلك العرف وطبيعة العقارات وموقع كل منها بالنسبة للآخر، والغرض الذي خصصت له، لذلك يمكن القول أن الحياة في المجتمع تستلزم أن يتحمل الفرد بعض المضايقات المألوفة للجوار أي تلك المضايقات أو المضار الخفيفة ،دون أن يكون له الحق في المطالبة بالتعويض عنها، بيد أنه إذا كانت تلك المضار قد بلغت حدا من الخطورة أي غير مألوفة، فإن الجار لا يكون ملزما بتحملها، وإنما يكون له الحق في تقرير مسؤولية محدثها، ومطالبته بتعويض الأضرار ذلك أن عدم مألوفية الضرر، هو الشرط الأساس لترتيب المسؤولية في بيئة الجوار[22]، لذا نتساءل حول الأساس القانوني لهذه المسؤولية، وهو ما سنحاول توضيحه في النقطة الموالية. 02 – الأساس القانوني لمسؤولية المالك عن مضار الجوار غير المألوفة: يرتب القضاء المسؤولية عن الغلو في استعمال الملكية، إذا ترتب عن ذلك مضار غير مألوفة وهذا ما دعى إليه الفقه العربي والفرنسي، إلى البحث عن تكييف قانوني لالتزام عدم الغلو في استعمال الملكية، وبالتالي البحث في أساس مسؤولية المالك عن مضار الجوار غير المألوفة، غير أن الجدل الفقهي الذي ثار في الفقه الفرنسي يختلف عن نظيره في الفقه العربي، وذلك لأن الفقه الفرنسي لم يستند صراحة إلى نص قانوني في ذلك فأراد تبرير أحكام القضاء وردها إلى أساس معين[23]، بينما على العكس من ذلك كان بين يدي الفقه العربي نصوص قانونية كالمادة 807 ق.م.م والمادة 691 ق.م.ج، والمادة 1021 من ق.م.أردني، وكل ما دار عليه النقاش هو تأصيل النصوص القانونية وردها إلى وجه معين من وجوه المسؤولية، فقد أقام عدد من الفقهاء وشراح القانون هذه المسؤولية على أساس الخطأ، ولكنهم اختلفوا في الوقت نفسه، فيما يتعلق بتحديد مفهوم هذا الخطأ في حين يرى فريق منهم أنه يتمثل في الخطأ الشخصي، وفريق ثاني بالإخلال بالتزامات الجوار، وفريق ثالث بتجاوز حالة الضرورة، وفريق رابع بالخطأ في حراسة الأشياء، وسنعالج هذه الأسس على نحو مختصر وفقا لما يلي: أ – أساس عدم الغلو هو الخطأ الشخصي: مضمون هذا الأساس أن الخطأ الشخصي، الذي يصدر من المالك هو أساس المسؤولية عن مضار الجوار غير المألوفة، فالمالك الذي يلحق مضارا غير مألوفة بجاره وفق منطق هذه النظرية يكون قد صدر منه خطأ شخصي، يقيم مسؤوليته وفقا للقواعد العامة في المسؤولية التقصيرية، ولكن أنصار هذا الاتجاه اختلفوا في تحديد مفهوم هذا الخطأ فذهب فريق إلى أن المسؤولية عن مضار الجوار غير المألوفة، تقوم على أساس الخطأ بمفهومه التقليدي، والذي يتمثل في الخروج عن الحدود الموضوعية للحق، وذلك إما بالانحراف عن السلوك المعتاد للشخص ،أو في الإخلال بالتزام تفرضه القوانين واللوائح، ومن ذلك ما قضت به المادة 27 من القانون رقم: 04/08 والتي تنص على أنه: «دون الإخلال بأحكام القانون رقم: 90/29 والمتعلق بالتهيئة والتعمير لا يمكن السماح بتواجد نشاط تجاري لإنتاج السلع والخدمات ،من شأنها أن تحدث أضرارا أو مخاطر بالنسبة لصحة وراحة السكان و/أو المحيط إلا في المناطق الصناعية أو مناطق الأنشطة المعدة لهذا الغرض، والواقعة في المناطق الحضرية أو شبه الحضرية السكنية دون سواها، غير انه يمكن أن تنشأ هذه الأنشطة في مواقع محددة ضمن نواحي المناطق الحضرية أو شبه الحضرية، وخارج مناطق النشاطات أو المناطق الصناعية بناء على رخصة صريحة تسلمها المصالح المؤهلة»[24]. وعليه فمخالفة نص هذه المادة، وذلك بعدم احترام ومراعاة شروطها يؤدي إلى مساءلة الشخص لأنه يكون قد ارتكب خطأ تقصيري، وذلك بمخالفته لالتزام قانوني، وكذلك الأمر إذا انحرف الشخص في استعمال حقه، عن سلوك الشخص المعتاد كعدم اتخاذه الاحتياطات والتدابير اللازمة أو إهماله وتقصيره في ذلك، كأن يتسبب في هدم مباني الجار بسبب حفره لأساسات المنزل، أو يتلف ممتلكات ومزروعات الجار بفعل تخزين مواد بنائه[25]، وطبقا لذلك يجب على الشخص الجار أن يراعي الحدود الموضوعية لحقه والتي لا تؤدي إلى إلحاق أضرار غير مألوفة بجيرانه، لأن القانون رسم حدودا موضوعية لحق الملكية لا يمكن تجاوزها، متمثلة في المضار المألوفة التي يتسامح فيها الناس عادة، ولكن إذا غلا المالك في استعماله لملكه، بحيث ألحق مضار غير مألوفة بجاره فإنه يكون قد خرج عن هذه الحدود، فيكون فعله بذلك خطأ يخضع في مسؤوليته عنه للقواعد العامة في المسؤولية التقصيرية[26]. أما الاتجاه الثاني فذهب إلى أن الأساس القانوني للمسؤولية عن مضار الجوار غير المألوفة يكمن في الخطأ بمفهوم الاعتداء المادي على ملك الجار، حيث يرى هذا الفريق أن المالك إذا أتى فعلا في حدود حقه، وضمن نطاق ملكه وترتب عليه مضار غير مألوفة تعدت ماديا ملكه إلى ملك جاره، بحيث انتقلت من الحيز المادي لملكه واخترقت الحيز المادي لملك ذلك الجار[27]، كأن تنبعث ضوضاء أو أدخنة أو روائح كريهة أو أصوات مزعجة، فإن هذا التعدي من قبل المالك، يعد خطأ تبنى عليه المسؤولية، وذلك لأنه يتوجب على المالك، وهو يستعمل حق ملكيته مراعاة ألا يترتب على ذلك تعدي مادي أو مساس مباشر بملك الجار[28]. بينما ذهب فريق ثالث إلى أن أساس المسؤولية عن المضار غير المألوفة هو خطأ يتمثل في رفض المالك، تعويض الجار المضرور عن الضرر الذي ألحق به، حيث يرى هذا الفريق أن المالك إذا استعمل ملكه استعمالا عاديا، وترتب على ذلك مضار مألوفة لحقت جاره، فإنه يتوجب على الأخير تحمل هذه المضار، التي يتسامح الناس فيها عادة ولكن إذا غلا المالك في استعمال ملكه، واستعمله استعمالا استثنائيا ليحصل منه على فائدة أكبر مما ترتب عن ذلك مضار غير مألوفة، لحقت جاره فإنه يقع على عاتقه تعويض هذا الأخير عن هذه المضار[29]، فإذا رفض تعويضه عن ذلك فإن رفضه يعد بحد ذاته خطأ تبنى عليه المسؤولية، وذلك لأن استعمال المالك لملكه استعمالا استثنائيا ليس خطأ، حيث تعد ممارسته لحقه في هذا المقام مشروعة ومفيدة للمجتمع، ويتمثل الخطأ في رفضه التعويض عن هذه المضار غير المألوفة، فتقوم مسؤوليته عنها وفقا للقواعد العامة في المسؤولية التقصيرية، على أساس الخطأ متمثلا في رفض التعويض[30]. ب – أساس عدم الغلو هو الالتزام القانوني للجوار: اتفق جانب من الفقه على أن هناك التزامات جوارية معينة، بين الملاك المتجاورين يلتزم بمقتضاها كل مالك بأن يستعمل ملكه وينتفع به كيفما شاء، وبالطريقة التي تروق له دون أن يلحق مضارا غير مألوفة بغيره من الجيران، ولكن إذا ألحق المالك هذه المضار يجيرانه ،فإنه يكون بعد ذلك قد أخل بالتزام مفروض عليه بعدم إلحاق مثل هذه المضار بهم، مما يتوجب قيام مسؤوليته عنها، على أساس الإخلال بهذا الالتزام[31]، ولكنهم اختلفوا في الوقت نفسه في تحديد طبيعة هذا الالتزام فيما بينهم. فذهب فريق إلى أن مضار الجوار غير المألوفة، تقوم على أساس الالتزام شبه العقدي حيث يعد الجوار وفق منطق هذا الفريق شبه عقد، ينشئ التزامات متبادلة بين الملاك المتجاورين من شانها أن تجعل كل منهم يتصرف بملكه كيفما شاء، دون أن يضر بالجيران الآخرين[32] ،وإذا خالف المالك هذا الالتزام وقام باستعمال ملكه، بطريقة تضر جاره فإنه يكون حينئذ قد خرق التزامه شبه التعاقدي، مما يستوجب قيام مسؤوليته عن ذلك على أساس الإخلال بهذا الالتزام[33]. أما فريق ثاني فذهب إلى أن التزام المالك ،بعدم إلحاق مضار غير مألوفة بجاره ليس مصدره شبه العقد وإنما مصدره القانون[34]، فإذ أخل المالك بالتزام فإنه يكون قد أخل بالتزام قانوني مفروض عليه، مما يستوجب قيام مسؤوليته على أساس الإخلال بهذا الالتزام. بينما فريق ثالث ذهب إلى أن المسؤولية عن مضار الجوار غير المألوفة تقوم على أساس عرفي، حيث يفرض العرف وفق منطق هذا الفريق ،على المالك التزاما بألا يحدث مضارا غير مألوفة بجاره، فإذا أخل المالك بالتزامه يكون قد ـأخل بالتزام عرفي مفروض عليه، ويستند في ذلك إلى ما نقل عن الفقيه الفرنسي بوتيه، من أن عدم الإضرار بالجار يعتبر مبدأ عاما يرجع إلى الأعراف القديمة[35]. ج – أساس عدم الغلو تجاوز حالة الضرورة: يؤسس أنصار هذه النظرية المسؤولية ،عن مضار الجوار غير المألوفة على أساس خطأ يتمثل في تجاوز حالة الضرورة، ومقتضى هذه النظرية أن العلاقة الجوارية تقتضي تحمل كل من الجارين المضايقات العادية ، التي تصدر من الآخر والتي تعد ضرورية لممارسة حق ملكيته، لكن يجب أن تقف هذه المضايقات عند الحد الذي تكون فيه مألوفة أي ضرورية لممارسة المالك لحق ملكيته، أما إذا تجاوزت هذا الحد بأن كانت غير مألوفة أي غير ضرورية ،لهذه الممارسة فإنه يتحقق الخطأ ولكنه ليس خطأ في جانب محدث الضرر، وإنما بتجاوز حالة الضرورة، إذ تعتبر هذه الأخيرة خطأ بحد ذاته، لذا يحكم بالتعويض للجار المضرور رغم انتفاء الخطأ، في جانبه استنادا لتجاوز حالة الضرورة لذلك شبه البعض استعمال المالك لحق ملكيته، وصدور أضرار لحقت جاره بنزع ملكية هذا الأخير للضرورة الخاصة[36]. د – أساس عدم الغلو هو المسؤولية عن الأشياء: ترتب على التطور العلمي والتكنولوجي والصناعي، وشيوع استخدام الآلية في العصر الحديث زيادة أسباب وقوع الضرر وتنوعه، بحيث أصبحت هذه المسؤولية عاجزة عن حماية المضرورين، ذلك لعجز المضرور عن إثبات خطأ المسؤول، عن الضرر في الكثير من الأحيان[37]، مما أدى ذلك إلى فقدان حقه في التعويض، لزيادة الحوادث وغموض سببها وعدم إمكانية نسبتها إلى شخص معين، من هنا نشأت فكرة المسؤولية عن الأشياء والتي تستند إلى فكرة الخطأ المفترض في جانب الشخص بحيث تقوم مسؤوليته عن الضرر الذي ينشأ عن الأشياء والآلات، التي يملكها بمجرد الملكية وإثبات علاقة السببية بين الشيء والضرر، سواء ثبت التقصير في جانبه أم لم يثبت، فحراسة الشيء تفيد بوجود قرينة قانونية على حصول الخطأ منه لا تقبل إثبات العكس، وبذلك استقر الفقه على أن كل من لديه أشياء أو آلات ميكانيكية، ألحقت مضارا بالغير فإنه تقوم مسؤوليته عن هذه المضار على أساس نظرية حراسة الأشياء، أو ما يمكن أن يطلق عليه الخطأ المفترض[38]، ووجدوا تفسيرا لنظريتهم في القانون الفرنسي، ضمن نص المادة 1384 والتي تنص على انه: «لا يكون الإنسان مسؤولا فقط عن الضرر الذي تسبب فيه بعمله بل أيضا عن الضرر، الذي تسبب عن الأشياء التي في حراسته»، وفي البداية طبقوا هذا النص على المؤسسات الصناعية، والتي تعتبر المصدر الأول والمستمر في إحداث الأضرار، حيث رأوا بأنه يجب على مستغل أو مستثمر المنشأة الصناعية لتفادي الإضرار بجيرانه أن يتخذ كافة الاحتياطات والتدابير، اللازمة والضرورية والأكثر حداثة وأن حصوله على الترخيص الإداري المسبق، بممارسة النشاط لا يعفيه من مسؤوليته عن تلك الأضرار غير المألوفة، وعليه إذا كانت هذه المنشآت الصناعية تنتج عنها الغازات السامة والأدخنة السوداء الخانقة، أو الضجة المزعجة والمستمرة ليلا ونهارا فإن صاحب هذه المنشآت تقوم مسؤوليته، عن هذه الأضرار وذلك لكونه قد أخل بالتزامه بالحراسة فكون الجيران قد أصابتهم مضايقات تجاوزت الحد المسموح به ،فإن ذلك يفترض إخلال صاحب المنشأة الصناعية ،مصدر الضرر بالتزام الحراسة المفروض عليه إذ أنه يعد حارسا للآلات والمعدات المستخدمة، في العمل مما يستوجب مساءلته عن ذلك كما لا يمكن نفي مسؤوليته بإثبات أنه لم يقترف أي خطأ، إذ أنه بذل العناية الواجبة بما يتفق والسلوك المألوف للرجل المعتاد، وإنما عليه إثبات السبب الأجنبي الذي أدى إلى حدوث الضرر، ولا يمكنه بأي حال استئناف ممارسة العمل، في المنشأة الصناعية مصدر الضرر إلا بعد إصلاح الأضرار التي سببها لجيرانه، مما يؤكد افتراض التزام الحراسة التي تقع على عاتقه ،كما ذهب أنصار هذا الاتجاه في تعميم قولهم على منازعات الجوار، إلى القول بأن نص المادة 1384 ق.م.ف لا يقتصر تطبيقه على الأضرار الناتجة عن المنشآت الصناعية وفقط ،وإنما يطبق أيضا على المضايقات غير العادية التي يتعرض لها الجيران، والتي تكون ناتجة عن الاستعمال العادي والمشروع لحق الملكية[39]. • أما بالنسبة لموقف المشرع الجزائري فقد اعتمد على فكرة التعسف في استعمال الحق كأساس للمسؤولية عن مضار الجوار غير المألوفة، وهذا ما يستدل من نص المادة 691 فقرة 01 التي ربطت بين درجة التعسف في استعمال الملكية ،وحدوث الضرر بما ينشئ المسؤولية عن مضار الجوار غير المألوفة، مما يفهم منه أنه يمنع التعسف في استعمال حق الملكية فقط في حال ترتب مضار جوار غير مألوفة عن ذلك، وفي المقابل يظهر وكأن المشرع يرخص التعسف في استعمال هذا الحق، في حال ترتب مضار مألوفة[40].