Section outline

  • المحور الرابع: العلاقة بين المسؤولية المدنية وأنظمة التعويض
    تعد علاقة السببية الركن الثالث في المسؤولية المدنية عموما، فلا يكفي أن يقع خطأ من المسؤول وأن يلحق ضرر بالمتضرر، بل لابد أن يكون هذا الخطأ هو السبب في حدوث هذا الضرر، وهذا هو معنى علاقة السببية بين الخطأ والضرر[1]. وقد عبر المشرع الجزائري عن ركن السببية في المادة 124 ق.م.ج بكلمة «ويسبب» إذ نصت على أن: «كل فعل أيا كان يرتكبه الشخص بخطئه ويسبب ضررا للغير يلزم من كان سببا في حدوثه بالتعويض»، وبالتالي لا يكتمل فهمنا للمسؤولية إلا من خلال الإحاطة بمضمون هذه العلاقة وأهم الأفكار التي تقوم عليها. أولا: مفهوم علاقة السببية: علاقة أو رابطة السببية كما هو متعارف عليه، تتمثل في الصلة التي تربط ما بين الفعل والنتيجة، وتثبت أن ارتكاب الفعل هو الذي أدى إلى حدوث هذه النتيجة، ومادامت دراستنا تدور حول المسؤولية المدنية، فإن رابطة السببية تعرف وفقا لذلك بأنها الصلة التي تربط ما بين الخطأ أو الفعل الضار والضرر الناتج عنه، وتعد العلاقة السببية شرطا ضروريا لقيام المسؤولية المدنية سواء كانت عقدية أو تقصيرية. وما تجدر الإشارة إليه هو عدم كفاية وجود الخطأ والضرر للقول بقيام المسؤولية، بل لابد أن يكون الخطأ هو السبب، الذي أدى إلى وقوع الضرر لأنه قد يقع الخطأ والضرر ولا توجد بينهما رابطة السببية، وبالتالي لا تقوم المسؤولية. وخلاصة القول أن المقصود بعلاقة السببية باعتبارها الركن الثالث من أركان المسؤولية هو توافر الارتباط السببي، بين ركني المسؤولية من ضرر وخطأ أي بصفة عامة الفعل الموجب للمسؤولية، وهو الأمر الذي يستلزم أن يكون الخطأ مقترنا بالضرر اقتران السبب بالمسبب، بحيث لا يتصور وقوع الضرر بغير قيام هذا الخطأ[2].
    01 – الصعوبات التي يثيرها تقدير العلاقة السببية: تثير العلاقة السببية صعوبة عن تقديرها أحيانا لسببين: - تعدد النتائج التي ترتبت على سبب واحد، بمعنى يمكن أن يترتب على خطأ ما ضرر أو يلحقه وقوع ضرر ثاني ثم ثالث، وهذا ما يسمى بتعاقب الأضرار. - اجتماع عدد من الأسباب في إحداث الضرر، فإذا تعددت النتائج الناشئة عن خطأ واحد توافرت العلاقة السببية بالنسبة للنتائج المباشرة لذلك الخطأ، وتوصف النتائج عندئذ بأنها أضرار مباشرة، لذلك اقترح الفقه في هذا الشأن نظريتين رئيسيتين نتناولهما ثم نحدد موقف المشرع الجزائري من هذه المسألة: أ – نظرية تعدد أو تكافؤ الأسباب: هذه النظرية ذات منشأ ألماني من طرف الفقيه فونبري[3]، وأخذ بها بعض الفقه، وأساس هذه النظرية أنه لا يمكن فصل العوامل التي ساهمت في وقوع الضرر، فكل سبب عاصر إحداث الضرر مهما كان بعيدا يعتبر سببا في حدوثه، فإذا تدخلت عدة أسباب في ذلك اعتبر كل سبب منها، سببا للضرر، فجميع العوامل التي ساهمت في أحداث الضرر تكون أسباب متعادلة أو متكافئة في حكم القانون، لأنه إذا تخلف أحد العوامل لم يقع الضرر، ويترتب على هذه النظرية المسؤولية في التعويض، وتشمل كل الأشخاص الذين ساهم خطأ كل واحد منهم في إلحاق الضرر، فإذا اشترك في الخطأ الذي أدى إلى الضرر أكثر من شخص فإنهم يسألون جميع عن هذا الضرر بغض النظر عن الضرر المباشر الذي أدى إلى حدوث الضرر[4]. ويرى منتقدو هذه النظرية أنه ليس كل فعل ساهم فمي إحداث الضرر يؤخذ في الاعتبار، بل يجب التمييز بين الأفعال المتسببة فعلا في الضرر أي المنتجة له وتلك التي لم تكن سببا فيه. ب- نظرية السبب المنتج: ظهرت هذه النظرية أيضا في ألمانيا، عن طريق الفقيه فون كريس وانتقلت منها إلى فرنسا ومنها إلى بقية الدول، ويحبذ الفقه والقضاء المعاصران الأخذ بها، ومؤداها أنه إذا تداخلت عدة أسباب في إحداث الضرر، فيجب التفرقة بين الأسباب العارضة والأسباب المنتجة، وبالتالي إقامة وزن للأسباب المنتجة فقط، واعتبارها وحدها المتسببة في الضرر، وبالتالي إهمال الأسباب العارضة وعدم أخطها بعين الاعتبار[5]. فالسبب المنتج هو ذلك السبب الذي يؤدي بحسب المجرى الطبيعي للأمور إلى وقوع مثل هذا الضرر الذي وقع، وإلا فإنه شيء عرضي لا يهتم به القانون، والأثر الذي يترتب على تعدد الأسباب أنه يجب الاعتداد بها جميعا[6]. وتبعا لهذه النظرية يعد فعل الشخص سببا للنتيجة ،ولو تدخلت عوامل سابقة أو لاحقة أو معاصرة على الفعل المرتكب مادامت هذه العوامل متوقعة ومألوفة، وفي حالة تدخل عامل شاذ أو نادر أو غير متوقع فإنه يكفي لقطع علاقة السببية، وإن كانت هذه النظرية تقوم على أساس اختيار السبب الأكثر تأثيرا ،من غيره في إحداث الضرر لتنوط به الرابطة بين الخطأ والضرر، فإنها في سبيل أن تحدد هذا السبب من بين مجموعة الأسباب التي ساهمت في إحداث الضرر، يكون لزاما عليها أن تلجأ إلى الفرض والتخمين وتبتعد عن الجزم واليقين، وبالتالي فإن ما تصل إليه من نتائج يقوم على قدر كبير من الاحتمال والترجيح وإن كان احتمالا وترجيحا موضوعيا وليس شخصيا[7]. ج – مفهوم علاقة السببية في التشريع الجزائري: هناك إجماع على أن التشريع الجزائري قد ساير التشريعات العربية خاصة القانون المصري الذي ساير بدوره القانون الفرنسي والذي أخذ بنظرية السبب المنتج، وحجتهم في ذلك المادة 182 ق.م.ج التي تقضي بأنه: «إذا لم يكن التعويض مقدرا في العقد أو في القانون فالقاضي هو الذي يقدره، ويشكل التعويض ما لحق الدائن من خسارة وما فاته من كسب بشرط أن يكون هذا نتيجة طبيعية لعدم الوفاء بالالتزام أو بالتأخير في الوفاء به ...»، فالاعتداد بالضرر الذي يكون نتيجة طبيعية لعدم الوفاء بالتزام يعني بالنسبة للفقهاء أن المشرع الجزائري ،أخذ حتما بنظرية السبب المنتج، وتجدر الإشارة إلى أنه في حالة وجود علاقة سببية سواء أكانت العبرة بنظرية تكافؤ الأسباب أو بنظرية السبب المنتج بين الضرر وعدة أسباب منسوبة إلى عدة أشخاص ،بحيث تقع المسؤولية على أكثر من شخص فيكون هؤلاء متضامنين في التزامهم بتعويض الضرر، وتكون المسؤولية فيما بينهم بالتساوي إلا إذا عين القاضي نصيب كل واحد منهم في الالتزام بالتعويض، وهو ما أكدته المادة 126 ق.م.ج[8]. ثانيا: إثبات علاقة السببية: يثير موضوع إثبات علاقة السببية مسألتين على وجه الخصوص، وهما على التوالي: من يتحمل عبء إثبات علاقة السببية، ووسائل إثباتها. 01 – عبء إثبات علاقة السببية: يتحمل المضرور مبدئيا عبء إثبات رابطة السببية ،وإن كان إثبات الضرر يعد أمرا لا يثير كثيرا من الصعوبات، إلا أن الأمر يختلف فيما يتعلق بإثبات الخطأ ورابطة السببية، ويصبح إثبات رابطة السببية أكثر تعقيدا إذا استلزم الأمر، إثبات أكثر من رابطة سببية واحدة بين كل شخص مسؤول ،أو مساهم في إحداث الضرر وبين الضرر الذي حدث والأمر الذي ساهم في إحداث الضرر، لكل صاحب نشاط ضار ساهم في إحداثه، ومن ثمة يجد المضرور صعوبة في إثبات هذه الرابطة بين فعل الآخرين وبين ضرر مؤكد قد لحق به فيضيع حقه في التعويض نتيجة لذلك[9]. وتطبيقا ومراعاة لجانب المضرور الذي يقع على عاتقه عبء إثبات رابطة السببية فقد تساهل القضاء في هذا الأمر بإقامة قرينة لصالح المضرور، إذا كان من شان الفعل أن يحدث ضررا، لذلك فإنه يمكن اللجوء للاحتمال والظن، بحيث يكون الدليل احتمالي على وجود السببية بين الفعل والضرر كافيا للقول بقيام المسؤولية المدنية، ففي القانون الفرنسي على سبيل المثال وأمام صعوبات إثبات علاقة السببية ،يمكن للقاضي أن يستند إلى القرائن الخطيرة الواضحة والمطابقة وذلك طبقا للمادة 1353 ق.م.ف والتي تقضي بأنه: «في حالة صعوبات إثبات رابطة السببية يكون جائزا للقاضي أن يستند إلى القرائن القوية الواضحة»، وتطبيقا لهذا المبدأ نجد أن القضاء الفرنسي، لم يعد يقتصر على النظريات التقليدية لإثبات رابطة السببية، بل لجأ في بعض الأحيان لنظرية المخاطر أو ما يعرف بالشيء الخطير لأجل إقامة هذه العلاقة، حيث يكفي إثبات أن النشاط فيه خطورة للقول بأنه سبب حتمي لوقوع الضرر، ويعتبر النشاط خطيرا إذا انطوى على استعمال وسائل خطيرة أو تم في ظروف ،لا تخل من المخاطر كاستخدام الطاقة النووية، وفي هذه الحالة يلجأ القاضي ،إلى الاعتماد على نظرية المخاطر والأشياء الخطيرة لتسهيل إثبات الضرر[10]. تعتبر القرينة المتعلقة سواء بالخطأ أو بوجود علاقة السببية قرينة بسيطة يمكن للمسؤول عن الضرر أن يثبت عكسها، إذا أثبت أن ذلك الضرر حدث بسبب لم يكن يتوقعه مثل عمل الضحية أو عمل الغير، أو الحالة الطارئة أو القوة القاهرة، أي إذا أثبت السبب الأجنبي، مما يفيد انعدام علاقة السببية بين فعل الشيء والضرر الذي أصاب الضحية، وعلى سبيل المثال افترض المشرع الجزائري في المادة 140 فقرة 02 علاقة السببية حيث يعتبر أن الانهدام الكلي أو الجزئي للبناء، يرجع إلى إهمال في الصيانة أو قدم في البناء أو عيب فيه ما لم يثبت المالك عكس ذلك، كما وضع الاجتهاد القضائي كذلك قرينة بشان علاقة السببية ،في نطاق المسؤولية العقدية حيث يعتبر فيما يتعلق بالالتزام بتحقيق نتيجة أن مسؤولية المدين تتحقق بمجرد عدم حصول النتيجة المتعهد بها[11]. 02 – نفي علاقة السببية: تسمح المادة 127 ق.م.ج للشخص المسؤول ،أن يتخلص من مسؤوليته إذا أثبت أن: «... الضرر قد نشأ عن سبب لا يد له فيه كحادث مفاجئ أو قوة قاهرة أو خطأ صادر من المضرور أو خطأ من الغير»، ويقابله نص المادة 261 ق.م أردني و161 ق.م.م، ويترتب على أنه يمكن نفي علاقة السببية بين الخطأ والضرر، بإثبات السبب الأجنبي مما يؤدي إلى انتفاء المسؤولية، وصور السبب الأجنبي هي: القوة القاهرة- الحادث المفاجئ- خطأ المضرور- خطأ الغير. أ - المقصود بالسبب الأجنبي: سنحاول تحديد المقصود بالسبب الأجنبي وإبراز صوره كما يلي: - تعريف السبب الأجنبي: لم تعرف جل التشريعات المدنية المقارنة السبب الأجنبي وإنما اكتفت بذكر وبيان صوره، دون إيراد تعريف له، كما أن القضاء الجزائري في تطبيقاته للسبب الاجنبي لم يورد هو الآخر تعريفا محددا له ،بل اكتفى فقد بذكر صوره ونظرا للفراغ الذي اعترى النصوص، في التشريعات المدنية من فكرة تعريف السبب الأجنبي سنحاول إعطاء بعض التعريفات الفقهية، التي تباينت في مسألة تعريفه وتحديد المقصود به، فهناك جانب من الفقه أوجد تعريفا للسبب الأجنبي إلا أنه استبعد القوة القاهرة مثلا من دائرة صور السبب الأجنبي، وهو ما جاء به الفقيه سافمايته الذي اكتفى بقوله أن السبب الأجنبي ،يقتصر فقط على فعل الغير سواء كان الغير هو المتضرر نفسه أو كان شخصا آخر، وكذلك الأستاذ جوسران الذي استعد من دائرة صور السبب الأجنبي الحادث الفجائي، كما عرفه الفقيه الفرنسي ديفور مانتيل على أنه «كل واقعة تنشأ باستقلال عن إرادة المدين ولا يكون باستطاعة هذا المدين توقعها أو منع حدوثها». الملاحظ على تعريف هذا الفقيه أنه لم يحصر في تعريفه صورا محددة للسبب الأجنبي كما ضمن تعريفه عناصر وأركان لابد من توافرها في السبب الأجنبي حتى يعتد به وهي: عنصر عدم التوقع وعنصر الاستحالة للدفع[12]. ويمكن ان نعرف السبب الاجنبي، بأنه كل واقعة لا يد للحارس فيها جعلت من حدوث الضرر أمرا محتما لا يمكن لها الأخير تجنبه، وبذلك للسبب الأجنبي ركنين: الركن الأول: يتمثل في انتفاء الإسناد، بمعنى أن يكون سبب الحادث أجنبيا عن المدعى عليه وعن من يسال عنهم، بأن يكون غير قادر على توقعه وغير قادر على تجنه أو دفعه. الركن الثاني: يتمثل في السببية أي أن تكون الواقعة المدعاة كسبب أجنبي سببا في الفعل الذي أحدث الضرر، ويطلق تعبير السبب الاجنبي على كل فعل أو واقعة تسببت في حدوث الضرر ولا تسند للحارس، فقد تكون هذه الواقعة من فعل الطبيعة ويطلق عليها اصطلاح القوة القاهرة، وقد تكون من فعل الإنسان غير الحارس والتي لا تخرج عن كونها من فعل المدعي في دعوى المسؤولية ذاتها، وهي ما يسمى بفعل المضرور، وقد تكون من فعل غير المضرور وتسمى بفعل الغير، فكل من القوة القاهرة وفعل المضرور وفعل الغير يعتبر صورة أو تطبيقا للسبب الأجنبي، وكل منها يمكن اعتباره سببا أجنبيا مستقلا[13]. وقد ذكرت هذه التطبيقات الثلاثة في المادة 138 فقرة 02 ق.م.م وهي تحتوي وتشمل كل أنواع وصور السبب الأجنبي بقولها: «... إذا أثبت أن ذلك الضرر حدث سبب لم يكن يتوقعه مثل عمل الضحية أو عمل الغير أو الحالة الطارئة أو القوة القاهرة». يستخلص مما سبق أن السبب الأجنبي هو الذي ينشأ عنه الضرر، غير أن المشرع يشترط تارة عدم نسبته للمسؤول (المواد 127- 130- 137 ق.م.ج) وتارة أخرى عدم توقعه (المادة 138 فقرة 02 ق.م.ج)، ولا يمكن للمدعى عليه في القانون الفرنسي أن يدعي من قبل السبب الأجنبي ما أصابه من اختلال عقلي أو جسدي، وعكس ذلك يعتبر الاجتهاد القضائي الفرنسي أن حالة البطالة التي حلت بالمدعى عليه، تبرئ ذمته ويمكن اعتبارها كسبب أجنبي طالما أنها ناتجة عن عوامل اقتصادية أو اجتماعية لا يد للمدعى عليه فيها. - صور السبب الأجنبي: ذكر المشرع الجزائري إلى جانب القوة القاهرة والحادث المفاجئ خطأ المضرور وعمله وخطأ الغير وعمله، وقد أثارت الصيغة التي ذكر بها المشرع هذه الصور المختلفة للسبب الأجنبي في المادتين 127 و138 فقرة 02 بعض التساؤلات عن طبيعة هذا الذكر، فيعد بعض الفقهاء أن المشرع أوردها على سبيل المثال، بينما يرى آخرون وهذا هو القول الراجع أنها واردة على سبيل الحصر حيث تنعدم صور أخرى للسبب الأجنبي[14]. • القوة القاهرة والحادث المفاجئ: لم يفرق الفقهاء ولا القضاء بين القوة القاهرة والحادث الفجائي، كما ان المشرع الجزائري جرى على اعتبارهما مترادفين (المادة 127 ق.م.ج) فإذا أثبت الشخص أن الضرر قد نشأ عن سبب لا يد له فيه كالقوة القاهرة كان غير ملزم بتعويض هذا الضرر، ويشترط في القوة القاهرة أو الحادث الفجائي، أن يكون أمرا لا يمكن توقعه ولا يمكن دفعه وان يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا[15]. فالقوة القاهرة تتميز بخاصية استحالة الدفع، والحادث الفجائي يتميز بعدم إمكان التوقع، وتعرف القوة القاهرة أو الحادث الفجائي على أنه: «تلك الواقعة التي يتعذر على الإنسان دفعها والتي لا يمكن توقع حصولها عادة ويمكن إسناد الضرر الحادث للمضرور، فهي قد تتمثل بزلزال أو فيضان أو حرب أو أ ي أحداث مادية أو أزمات اقتصادية مادامت مستحيلة الدفع والتوقع»، وقد حاول بعض الفقهاء التمييز بين القوة القاهرة والحادث الفجائي، بقولهم أن القوة القاهرة هي متعلقة ومتصلة بأمر خارجي لا علاقة له بنشاط المدين كالحروب والزلزال والفيضان، في حين أن الحادث الفجائي هو أمر داخلي متصل بنشاط المدين كانفجار إطار السيارة ،أو حصول خلل في آلة كهربائية طالما ان هذا الخلل أو التحطم قد نبع من داخل الشيء دون أن يكون هناك أي عامل خارجي تدخل في ذلك [16]. والحقيقة أن الحادث المفاجئ باعتباره سببا أجنبيا ،لا يختلف عن القوة القاهرة لا من حيث شروط وجوبه ولا من حيث الآثار المترتبة عليه، وهو إعفاء المدعى عليه من مسؤوليته. • خطأ وعمل المضرور: ويقصد أن المدعى عليه هو من وقع منه الفعل الضار، ومعيار قياس خطأ المضرور هو معيار الرجل العادي، وبالتالي يعتبر المضرور قد ارتكب خطأ إذا ما انحرف عن سلوك الرجل العادي، ويستطيع المدعي أن يتمسك بخطأ المضرور ليس فقط في مواجهة المضرور، وإنما في مواجهة ورثته إذا انتهى الحادث بموت المضرور[17]. وقد نصت بعض التشريعات العربية في قوانينها المدنية على خطأ المضرور كسبب من الأسباب الأجنبية المعفية من المسؤولية إعفاءا كليا أو جزئيا سواء في المسؤولية التقصيرية أو العقدية، حيث يتحدد في الأولى في خطأ من جانب ضحية الفعل الضار، وفي الثانية في خطأ من جانب الدائن، واعتبار خطأ المضرور سببا أجنبيا معفي كليا أو جزئيا لمسؤولية المنسوب إليه الضرر، لابد أن يساهم هذا الخطأ مع خطأ صادر عن المنسوب إليه الضرر، وبالتالي فإن إعفاء المسؤول من جزء من المسؤولية أو منها كليا يعتمد على كون ما صدر من المتضرر خطأ كما نصت المادة 138 فقرة 02 ق.م.ج على فعل المضرور غير الخاطئ كسبب أجنبي معفي ،من المسؤولية عن فعل الأشياء غير الحية بقولها:«يعفى من هذه المسؤولية الحارس للشيء إذا أثبت أن ذلك الضرر حدث لسبب لم يكن يتوقعه مثل عمل الضحية أو عمل الغير أو الحالة الطارئة أو القوة القاهرة». يتضح من نص هذه المادة أن المشرع الجزائري ،اعتبر مجرد الفعل غير الخاطئ الصادر من المضرور سببا أجنبيا يعفي الحارس من المسؤولية عن فعل الأشياء غير الحية بعدما نص في المادة 127 ق.م.ج على فعل المضرور الخاطئ كسبب أجنبي معفي من المسؤولية عن الأفعال الشخصية، إلا أن هذه التفرقة بين الفعل الخاطئ والفعل غير الخاطئ للمضرور غير منصوص عليها، في التشريعات العربية فمنها ما يشترط في فعل المضرور حتى يعفى المنسوب إليه الضرر، أن يكون خاطئا كالمادة 165 ق.م.م و165 ق.م.سوري، ومنها ما يكتفي بفعل المضرور غير الخاطئ، ولكن يشترط فيه صفات القوة القاهرة كالمادة 261 ق.م.أردني و233 ق.م.كويتي[18]. وإذا كنا أمام خطأ مشترك، ففي هذه الحالة لا تكون مسؤولية المدعى عليه كاملة بل تنقص بقدر تدخل المدعي بفعله في إحداث الضرر، وقد يرى القاضي أن أحد الخطأين قد ساهم بنسبة أكبر من مساهمة الخطأ الآخر، فيحكم بتوزيع التعويض على هذا الأساس. • خطأ وعمل الغير: إذا وقع الخطأ بفعل الغير فلا يثار أي إشكال، إذ تنتفي العلاقة السببية ويكون هذا الغير هو المسؤول الوحيد عن التعويض[19]، ويقصد بالغير الشخص المتسبب في الضرر، والذي يكون أجنبيا عن المدعى عليه، بمعنى ألا يكون هذا الأخير مسؤولا عنه، ولا يعتبر من الغير الشخص الخاضع للرقابة بالنسبة لمتولي الرقابة، ولا التابع بالنسبة للمتبوع، ويعد عمل الغير أو خطأه سببا أجنبيا ،متى كان غير متوقع وغير ممكن الدفع مثله مثل القوة القاهرة. ب- آثار السبب الأجنبي: يترتب على السبب الأجنبي سواء كان قوة قاهرة أو حادثا مفاجئا أو فعل المضرور أو فعل الغير إعفاء المدعى عليه من كل مسؤولية، متى كان هو السبب الوحيد في إحداث الضرر، وأما إذا اشترك فعل المدعى عليه مع القوة القاهرة ،فتقسم المسؤولية بقدر مساهمة كل منهما، وفي حالة تزاحم فعل المدعى عليه مع فعل المضرور أو فعل الغير فيؤخذ في الحسبان جسامة كل منهما، بحيث إذا كان فعل المضرور أو الغير يستغرق فعل المدعى عليه فإن هذا الأخير يعفى من المسؤولية المترتبة عليه، وأما إذا كان على درجة واحدة فيتحمل كل منهم جزء من المسؤولية يكون بقدر مساهمته في إحداث الضرر[20]، وهذا ما أكدته المادة 126 ق.م.ج بقولها: «إذا تعدد المسؤولون عن عمل ضار كانوا متضامنين في التزامهم بتعويض الضرر وتكون المسؤولية فيما بينهم بالتساوي إلا إذا عين القاضي نصيب كل منهم في الالتزام بالتعويض». ثالثا: دور النظم التعويضية الخاصة في إضعاف فكرة الخطأ: يسعى الفرد دوما إلى إيجاد وسائل تمكنه من توفير الحماية اللازمة لحقوقه المالية وغير المالية، ومن بين تلك الوسائل التي أوجدها المسؤولية المدنية، التي ارتكزت كليا على الخطأ بحيث لا يمكن خارج الخطأ الحصول على التعويض، وقد احتلت مكانة معتبرة نظرا لتطبيق القضاء لقواعدها باستمرار، لكنها سرعان ما أثبتت عجزها عن توفير الحماية اللازمة للضحايا، إما لأن أركانها لم تتحقق أو لتمكن المسؤول بعد أن تثبت المسؤولية في جانبه، من التخلص منها بإثبات السبب الأجنبي، فضلا عن الحالة التي يكون فيها غير قادر على دفع التعويض بسبب إعساره، لذا ظهرت الحاجة لضرورة الانتقال بالتعويض عن الأضرار من المسؤولية الفردية إلى الجماعية، بحيث يجد المضرور في الكثير من الحالات ذمة جماعة، تلتزم بالتعويض إلى جانب المسؤول أو بدلا عنه[21]، وأمام تزايد عدد الضحايا الذين بقوا من دون تعويض، أوجد المشرع حلولا استثنائية[22]، فهي لا تشمل تعويض الضحايا بصفة عامة، كما هو الشأن في المسؤولية المدنية، وإنما تشمل تعويض ضحايا حوادث معينة وقعت في فترات محددة، كتعويض حوادث العمل وتعويض حوادث المرور، تعويض ضحايا المظاهرات وأعمال العنف، وتعويض ضحايا الكوارث الطبيعية. وبروز هذا النظام الجديد إلى جانب نظام المسؤولية المدنية حيث لازال بعض الفقهاء يعتبرونه مجرد صورة من المسؤولية أو نظام خاص للتعويض، وهو أيضا محل تسميات مختلفة، فالبعض يطلق عليه نظام تعويض جزافي، باعتبار أن التعويض الذي تتحصل عليه الضحية ليس تعويضا لكل الضرر الذي لحق بها، ويطلق عليه البعض الآخر تسمية التعويض التلقائي، لكون الضحية تتحصل على التعويض في كل الحالات بقوة القانون، ويطلق عليه البعض الآخر تسمية الضرر الجسماني، لكونه يقتصر على تعويض الضرر الجسماني، فقط ولكن هذه التسميات المختلفة لا تعني بتاتا أن هناك اختلاف بشان عناصر هذا النظام التعويضي، الذي يتميز كليا عن المسؤولية المدنية[23]. ومن جهة أخرى فإنه عكس نظام المسؤولية المدنية ،والتي تكون قابلة للنفي عن طريق إثبات توافر حالة من حالات السبب الأجنبي طبقا للمادة 127 ق.م.ج فإن الأمر مختلف في ظل النظام التعويضي ،إذ لا يمكن للمدين بالتعويض (الصندوق) التنصل من دفع التعويض للضحية بحجة توفر حالة من حالات السبب الأجنبي، كالقوة القاهرة أو خطأ الغير أو خطأ الضحية، والادعاء أنها هي مصدر الضرر الذي لحق الضحية أو أنه كان له دور في جسامة ذلك الضرر، وبذلك فإنه أمام تمدد وانتشار النظم التعويضية أصبحت القاعدة هي كل ضرر يكون قابلا للتعويض، ولم يعد تعويض الأضرار في الوقت الحالي قاصرا على المسؤولية الفردية، بل ظهرت إلى جانبها المسؤولية الجماعية ممثلة في التأمين والتأمينات الاجتماعية والضمان الاجتماعي، وهذا الالتزام الجماعي بالتعويض تجاه المضرور في ظل النظم التعويضية، لا يقوم بداهة على أساس الخطأ وإنما على أساس التضامن الاجتماعي، بتعويض كافة الأضرار في المجتمع[24]. إن الغرض من هذا النظام الجديد، هو تمكين الضحية من الحصول فعلا التعويض حيث أصبح البحث عن سبل جبر الضرر، الذي لحق الضحية هو الانشغال الأول للمجتمع، وتجدر الإشارة في هذا الشأن ،إلى أن المجتمع قد يقتصر دوره بحسب طبيعة الأخطار على تنظيم تضامن المعنيين ،وقد يتحمل هو نفسه عبئ التعويض. 01 – انتشار التأمين والأنظمة الجماعية للتعويض: أدى ظهور الثورة الصناعية ،وما صاحبها من استعمال الآلات والماكنات في العمل إلى إيجاد أخطار وحوادث ،قد يكون العامل ضحيتها أو قد يكون المتسبب فيها، وكنتيجة لذلك كثرت دعاوى المسؤولية المدنية من طرف الضحايا، أو من الغير من أجل تحديد مسؤولية هذه الأخطار، وعلى ذلك فكر أصحاب شركات التأمين في إيجاد أنواع مختلفة من التأمينات لأجل تغطية حوادث المسؤولية المدنية ،كالتأمين عن المسؤولية المدنية عن حوادث السيارات، وتأمين أصحاب الأعمال من الإصابات والأمراض المهنية[25]، لذا وجد التامين من الأضرار بهدف تعويض المؤمن له ،عما قد يلحقه جراء وقوع الخطر المؤمن منه، أي أنه يمتاز بالصفة التعويضية، ويختلف نطاق التعويض ومضمونه بحسب موضوع التأمين، ولا يجوز للتعويض أن يتجاوز مقدار الضرر الذي حدث بالفعل ويسعى لإصلاح الأضرار، والخسائر التي يتعرض لها المؤمن له[26]. فالمسؤولية المدنية اليوم لم تعد جزاء الإهمال وعدم التبصر وعدم الحيطة، ولكنها صارت وسيلة اجتماعية لتعويض المضرور، كلما أمكن نسب الضرر إلى شخص معين بصرف النظر عن درجة الخطأ والانحراف، حيث نجد اليوم أن هناك علاقة جد وثيقة بين المسؤولية والتأمين، خاصة بعد أن كثرت القضايا وتضخمت المشاكل القانونية كان لابد من ظهور نظام التأمين من المسؤولية، وذلك لتخفيف وطأة العبء على الشخص المعني كي يستمر على نشاطه الاجتماعي، زيادة على ذلك ضرورة تغطية العجز الذي أصبح اليوم يعاني منه نظام المسؤولية المدنية، فيما يخص القيام بالوظيفة التعويضية والذي جعل المضرورين في كثير من الحالات ،لا يجدون الطرف الذي يضمن لهم الحصول على تعويض الأضرار التي تمسهم لسبب أو لآخر[27]، وقد حل المؤمن سواء أكان صندوق الضمان الاجتماعي أو شركة التأمين، محل المدين بالتعويض تجاه الضحية، وبمقتضى هذه العلاقة الجديدة أصبحت الضحية، ليست بحاجة إلى إثبات مسؤولية الشخص المتسبب في الضرر ولا علاقة السببية، بل تستحق التعويض لمجرد تحقق الخطر محل التأمين ولا حاجة للجوء للقضاء ،طالما أن مقدار التعويض محدد قانونا أو اتفاقا خاصة وأن المدين مطالب بصفته ضامنا لا مسؤولا، فأصبح التأمين إجباريا تحت طائلة عقوبات مختلفة بما فيها العقوبات الجزائية، وأنشأت إلى جانب صناديق الضمان الاجتماعي تعاضديات بمحض إرادة المعنيين، بمختلف الأخطار الاجتماعية المحتملة قصد الاستفادة من تعويضات إضافية، علما وأن التعويض الذي يتحمله المؤمن هو تعويض جزافي أو جزئي[28]، وبذلك كان للتقدم التكنولوجي أثر بالغ في تعديل الصورة العادية أو المألوفة للتعويض وذلك من خلال تعديل وصف المسؤول عن التعويض، سواء باشتراط التأمين الإجباري من المسؤولية المدنية، أو عن طريق تدخل الدولة في التعويض أو عن طريق صناديق الضمان الاجتماعي، وبالتالي يمكن تعريف التأمين من المسؤولية المدنية بأنه :"عقد يتم بين شخص يسمى المؤمن ،وشخص آخر يسمى المؤمن له بمقتضاه يتحمل المؤمن العبء المالي المترتب عن الخطر الضار غير العمد والمحدد في العقد بسبب رجوع الغير إلى المؤمن له بالمسؤولية لقاء ما يدفعه هذا الأخير من أقساط"، وعلى هذا فإن المؤمن له يبرم عقد التأمين ،من أجل نقل تبعة مسؤوليته المدنية فإذا تحققت هذه الأخيرة فإن شركة التأمين تقوم بدفع التعويض للمضرور، بدلا من قيام المؤمن له بذلك، وتتمل صورة استفادة المضرور باستفادته من تدعيم ذمة المسؤول ،أو ضمانه العام بمبلغ التأمين بما يمكنه من الحصول على التعويض من شركة التأمين مباشرة[29]. وبذلك نخلص إلى القول بأن نظام التأمين من المسؤولية، يعد من بين أوجه الحماية القانونية التي كرستها مختلف التشريعات لأجل حماية المضرورين، وبمقتضاه أمكن للفرد أن يؤمن على أخطائه أيا كانت طبيعة هذه الأخطاء، بشرط ألا تكون أخطاء عمدية ويحقق هذا النظام للمضرور ميزة الرجوع مباشرة على المؤمن، وكلما اتسعت دائرة المسؤولية اتسع نطاق التأمين، أين يمكن للمؤمن له أن يتحصن خلف المؤمن ليدرأ عنه خطر الالتزام بالتعويض، وإذا كان التأمين من المسؤولية يتوقف على إرادة ذوي الشأن بمعنى أنه اختياريا إلا أنه في ظروف خاصة يعتبر إجباريا بنص القانون، وذلك بسب كثرة وانتشار الأضرار في ظل هذه الظروف[30].وبذلك يعد التأمين من المسؤولية الوسيلة المثلى لتعويض الشخص عما يصيب ذمته المالية من ضرر، بسبب رجوع الغير إليه بالتعويض وهو بهذا المعنى يكون نموذجا لتعاون مؤسسي يستند، إلى أسس فنية وقانونية بين فئة غير محدودة من الأفراد، لمواجهة أخطار المسؤولية المدنية، التي تهدد الذمة المالية لكل واحد منهم، ويوفر الحماية التأمينية للمؤمن له، في مواجهة الأخطار الناجمة عن انعقاد مسؤوليته، كما يوفر للمضرور تعويض عما لحقه من ضرر[31]